يمثل غياب صدمة الأرقام تحديًا عميقًا تواجهه المجتمعات في زمن الأزمات. عندما تتحول المآسي إلى أرقام تُعتبر "عادية"، نفقد الإحساس بالمسؤولية والتعاطف، مما يُشكل خطرًا على إنسانيتنا.
كما يشير معالي د. إبراهيم بدران في العديد من لقاءاته، فإن العالم اليوم يعاني من ظاهرة تعوّد الناس على الكوارث، حيث تُعتبر الأرقام، مثل ارتفاع معدلات البطالة من 10% إلى 15% ثم إلى 22%، مجرد تفاصيل تتكرر بلا اكتراث. أصبحنا نشهد مشاهد الدمار والقتل والإبادة الجماعية، التي تمحو عائلات كاملة من الوجود، وكأنها مجرد عناوين تُقرأ ببرود. حتى المستشفيات والمدارس ودور العبادة تُدمر، ونرى الإنسانية تُحرق في خيمها، ومع ذلك، نتعامل مع هذه الفظائع وكأنها جزء من الحياة اليومية. الأقصى الذي يُحرق أو يُهدم يُعتبر "عاديًا"، مما يُظهر فقداننا للإحساس بعمق هذه المآسي.
إن "غياب صدمة الأرقام" يعني أن الأفراد يفقدون حساسيتهم تجاه الأرقام والحوادث المرعبة بسبب تكرارها. فقد كانت الأخبار السيئة تُثير ردود فعل قوية في الماضي، ولكننا اليوم نشهد تراجعًا كبيرًا في تلك الاستجابات. الأرقام تتحول إلى إحصائيات بلا وجه، مما يُفصلنا عن معاناة الآخرين.
هذا الشعور باللامبالاة يُشكل تهديدًا حقيقيًا، حيث تُعتبر الأرقام المتعلقة بالبطالة أو الفساد أو المديونية ...الخ مسلمات لا تستدعي أي رد فعل. عندما نتقبل ذلك كواقع غير قابل للتغيير، نُعيق أي جهد نحو الإصلاح، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات. مع شعور الأفراد بالعجز وفقدان الجدوى، يتقلص مستوى مشاركتهم في الأنشطة الاجتماعية والسياسية، مما يجعل العمل من أجل التغيير يبدو مهمة بعيدة المنال.
لإعادة بناء الحس الإنساني، يجب أن نُسلط الضوء على القصص والتجارب الشخصية التي تعكس واقع المعاناة. فكل رقم يُعبر عن إنسان يحمل قصة حقيقية. هنا يأتي دور الإعلام في تعزيز الوعي من خلال تقديم هذه القصص بدلاً من الاكتفاء بالأرقام الجافة.
كما أن تعزيز العمل الجماعي وبناء شبكات الدعم والمشاركة المجتمعية يُعد أمرًا بالغ الأهمية. فعندما نعمل معًا، نستطيع تحفيز التغيير وإحداث تأثير إيجابي في حياتنا وحياة الآخرين. الحوار المفتوح حول القضايا المهمة يمكن أن يُعيد بناء شعور التعاطف والارتباط بالواقع.
إن الوقت قد حان لنُعيد النظر في تعاطفنا ونُحارب ثقافة اللامبالاة. لنُعيد إلى الأرقام معانيها الحقيقية، ولندرك أن كل إنسان يستحق أن يُسمع صوته. فالمعاناة ليست "عادية"، بل هي دعوة للتغيير، وللوقوف معًا من أجل مستقبل أفضل...