في البداية، لا بد من التعريف بمدلول كلمة "السرايا"، وهي القصور أو البيوت الكبيرة التي كان يشغلها رجال الدولة ويُصدرون منها القرارات المتعلقة بشؤون الحكم. أما "القرايا" فتعني قرى الريف وتجمعاته السكانية. ومن هنا جاء المثل الشعبي: "حكي السرايا غير عن حكي القرايا"، في إشارة إلى أن رؤى وأحكام رجال الدولة غالبًا ما تختلف عن تصورات عامة الشعب، وذلك بسبب اختلاف المعطيات والظروف بين الطرفين.
ورغم أن الهوة المعرفية والثقافية بينهما قد تقلصت كثيرًا في زمننا هذا بفضل انتشار التعليم ووسائل الإعلام، إلا أن الفارق ما زال قائمًا بفعل اختلاف طبيعة المسؤولية ومصادر الحصول على المعلومة.
ولتوضيح هذه الفكرة بمثال من الحياة اليومية، أستذكر فترة عملي الطويلة في دولة الإمارات، حيث كنت أحيانًا أسافر برا بمفردي، وفي أحيان أخرى مع عائلتي. ما لاحظته حينها أن قيادتي للسيارة كانت تختلف بين الحالتين؛ فحين أكون وحدي أكتفي بالحذر المعتاد، أما عند وجود عائلتي معي، كنت أتحلى بمزيد من الحذر والحرص، ليس استهانة بحياتي عندما أكون بمفردي، ولكن لأن دائرة المسؤولية تتسع لتشمل زوجتي وأطفالي.
وهذا المثال يعكس جوهر المثل: "حكي السرايا مش مثل حكي القرايا". القرارات التي تُتخذ في مواقع المسؤولية الكبرى تختلف جذريًا لأنها تنطلق من رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار معطيات قد لا تكون متاحة للجميع.
هذا المفهوم ينطبق بوضوح على خطاب العرش السامي، حين قال جلالة الملك: "لن نخضع لحسابات قد تجر البلاد والعباد إلى ما لا تحمد عقباه". هذه الكلمات المقتضبة تُظهر أن أصحاب القرار يملكون معلومات تفوق بكثير ما يصل إلى عامة الناس، ما يجعلهم أكثر دراية بحجم المخاطر والتحديات، وبالتالي يتخذون قرارات مدروسة على الأغلب تجنب البلاد مغبة التسرع أو الوقوع في الفخاخ.
على النقيض، نجد أن النقاشات التي تدور في الدواوين والمضافات والصالونات السياسية أحيانًا تفتقر لهذه النظرة الشاملة. قد تتسلل إلى هذه النقاشات أصوات مشبوهة تحاول دس السم في الدسم، فتثير الفتن وتزرع بذور التشكيك والتخوين. وهنا يكمن خطر الانجراف وراء هذه النقاشات غير المسؤولة، التي قد تخدم أجندات معادية تسعى لزعزعة الأمن والاستقرار.
لذا، علينا أن نعي الفارق بين مستوى المعلومات والمسؤوليات التي تُلقى على عاتق أصحاب القرار، وبين ما نراه نحن من منظور محدود. فالمصلحة الوطنية تقتضي أن نكون على قدر عالٍ من الحذر والوعي، متسلحين بالثقة في قيادتنا التي تسعى دومًا إلى حماية الوطن من المخاطر.