أستضفت في عام (١٩٩٩) في السنة الأولى من دراستي الجامعية أحد الأساتذة الذي عين مؤقتاً في الجامعة لفترة وجيزة على نظام المكافآت بديلاً للمدرس الأصلي بسبب إجرائه عملية جراحية مما أدى إلى تغيبه عن الجامعة لمدة شهر ، حيث تناوب بعض الطلبة على إستضافة المدرس الجديد ؛ كونه ضيفاً جديداً حتى تستقر الظروف الصحية للمدرس المريض ويعود للجامعة لتدريس الطلبة .
و عندما حل المساء طلبت منه مرافقتي و البقاء معي بالسكن لأني أعيش في غرفة قديمة وحيدا ، حيث ألحت عليه لإستضافته ليلة واحدة على الأقل وتناول طعام العشاء في غرفتي المتواضعة .
وعندما وصلنا الغرفة انصدم قائلا:" شو هالمكان المهجور لو بعرف هيك ما غلبتك و جئت معك من الأصل -الله يسامحك - هذا وضعك الإقتصادي صعب " قلت له :" خلص بعينك الله على هالليلة و راح تنبسط للمبيت مع نسائم وعبق أصوات البابور وضوء الفانوس . وأول ما دخلت الغرفة أشعلت له البابور، لكي يتدفأ لأننا كنا في فصل الشتاء ، فاستغرب وانبهر، فقلت له ؛" البابور أحلى و أفضل راح تستمتع بصوته العذب " .
نظر لي بإبتسامة خجولة، فقلت له: " سأعمل لك مكمورة على البابور ( دجاج مع بطاطا وبصل وبندورة ) .
فقال:" إني مشتاق لرؤية طبخك على البابور " ، فكان يحدق طويلاً وأنا أغسل الدجاج و أقطع البطاطا والبندورة والبصل وأضيف بهارات مصنوعة من أكليل الجبل (الحصلبان ) والكزبرة والكمون والحبة السوداء والكركم والشومر وغيرها من نباتات صحية دأبت والدتي - رحمها الله - على عملها ،و عندما نضجت المكمورة بدأنا نتناولها ، فأستغرب حلاوة المكمورة ، فقلت له :" بعتذر منك يا أستاذ لقد خربطت و وضعت السكر بدلاً من الملح دعني أعمل لك قلاية بندورة عوضاً عن هذه الطبخة " فأجاب :" خلص لا تغلب حالك هذه خير و بركة " و قد كان يأكل على مضض وكأنه يخفي عدم إعجابه بها ، بعدها قمت بعمل الشاي على البابور، فأستغرب مذاقه المر ، فقد خربطت بين المرمية والجعدة ، كونها مطحونة قريبة من شكل المرمية ، فشرب الشاي على مضض بعد أن أوضحت له فوائد الجعدة في القضاء على البرد .
وسألني عن الكهرباء فقلت له:" مقطوعة لهيك أشعلت الفانوس، وسألني عن الفراش ، فقلت: له نام على هذا الفراش جنبية قديمة ،و وضعت تحت أطرافها الشيح لأنه يعطي رائحة منعشة ويزيل آثار الرطوبة وعندما نام استيقظ فجأة ،وهو مذعور بسبب( قرص البعوض ) فقد كانت حفرة الأمتصاص قريبة من الباب وهي ممتلئة ويكثر عليها البعوض والذباب ، فقمت بتبخير الغرفة بإشعال المرمية الناشفة حتى ذهب البعوض ومات ، رغم أننا في فصل الشتاء ، فقد تركت النوافذ مفتوحة بالنهار للتهوية ، بعدها نام نوم العوافي .
وبعد منتصف الليل سقطت الأمطار بقوة في الخارج وكان يسمع هدير الرعد بقوة و من شدة المطر تسرب من النوافذ التي كنت أغطيها بالكرتون المقوى وبدأت المياه تتسرب من الغرفة ، وفجأة أستيقظ أستاذنا مندهشاً ، فتفاجىء أن فراشه مبلل بسبب المطر وكان يرتجف من البرد ، فنهضت وغيرت الفراش وأشعلت البابور لكي يتدفأ و يستمتع بالأجواء الرومانسية الخلابة !!!! حيث شاهدته في حالة يرثى لها ، فقد أصيب بقشعريرة شديدة وأصابه البرد، فقمت بعمل خلطة علاجية له جعدة و مرمية وشيح وقيصوم فتناولها على مضض كونه غير متعود على هذه الأجواء الخلابة .
أمضى أستاذنا ليلته بالقرب من البابور و بقي تلك الليلة مستيقظاً حتى الصباح الباكر و قتها شاهدت البسمة تعلو محياه، وغادر للجامعة كالعصفور المحبوس في قفص بعدما شكرني وأثنى عليّ وكنت أشعر بالحرج والضيق لما أصابه و وضعت ملابسه المبللة في الماء بالخارج ، وقد أعتذر عن الفطور قائلاً :" بفطر في كفتيريا الجامعة لا تغلب حالك " .
و في اليوم التالي بحثت عنه لكي أعطيه ملابسه فلم أجده ، وعندما سألت عنه أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة، قالوا :" أنه غادر الجامعة فجأة، و بعد أيام قليلة عاد مدرس المادة الأصلي الذي كان في فترة نقاهة بعد إجرائه لعملية جراحية ، فلما دخل علينا القاعة سلمنا عليه وقدمنا له التهنئة بنجاح عمليته وعودته للجامعة .
وأثناء المحاضرة قال المدرس :" أين الطالب يوسف المرافي ؟ فرفعت يدي، فقال :" زميلي السابق الذي جاء بدلاً مني بسبب المرض يشكرك جزيل الشكر على إستضافتك له في بيته ، و يقول :" إنه لن ينسى تلك الليلة الجميلة التي أمضاها في بيتك" . وقتها التزمت الصمت فكرت مدرسي يستهزئ بي وسط قيام الطلبة بالتصفيق وإعجابهم بما فعلته تجاه أستاذنا السابق و أصبحت أنال الإعجاب والتقدير من الجميع ...! فذهبت بعد إنتهاء المحاضرة لمدرسي لكي أستفسر منه عما قاله في المحاضرة بمدح تجاهي لعله كان يستخف في الكلام وأن المدرس قد قال شيئا آخر، وعندما دخلت عليه الباب نهض وقبلني قائلاً :" أنت طالب فريد بيضت وجوهنا بارك الله فيك على التربية وحسن الخلق " وقتها قلت ما أعظم ذلك الأستاذ!!! لقد أخفى عن الجميع ما حدث معه وها هو يمدحني .