شهد التاريخ العربي الحديث العديد من المواجهات المصيرية التي شكلت محطات فاصلة في الصراع العربي-الإسرائيلي، ومن أبرزها معركة الكرامة التي وقعت في 21 مارس 1968، حيث مثلت نقطة تحول استراتيجية أعادت للأمة العربية روح الصمود بعد نكسة 1967. لم تكن هذه المعركة مجرد اشتباك عسكري عابر، بل كانت مواجهة جسدت مبدأ التوازن الاستراتيجي وأكدت أن الإرادة الوطنية قادرة على إحداث تغيير حقيقي في موازين القوى.
في أعقاب النكسة، حاولت إسرائيل فرض هيمنة إقليمية على المنطقة، واستغلت ضعف الجيوش العربية لإرسال رسائل ردع إلى القوى المناوئة لها. كان الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى تحقيق عدة أهداف من الهجوم على منطقة الكرامة، أبرزها تحطيم القوى الفدائية التي بدأت تتخذ من الأردن منطلقًا لعملياتها العسكرية، بالإضافة إلى اختبار قدرة الردع الأردني وإرسال رسالة تهديد لدول الطوق العربي.
لكن القيادة الأردنية، بقيادة الملك الحسين بن طلال، كانت مدركة لحجم الخطر الذي يهدد سيادة الأردن واستقلاله، ولذلك استعد الجيش العربي الأردني للمواجهة بروح قتالية عالية، مستخدمًا تكتيكات عسكرية قائمة على حرب الاستنزاف والتحصينات الدفاعية الذكية التي مكنته من قلب موازين المعركة لصالحه.
مع بزوغ فجر 21 مارس 1968، شنت القوات الإسرائيلية هجومًا واسعًا بمشاركة حوالي 15 ألف جندي مدعومين بأكثر من 200 دبابة ومئات الآليات المدرعة، في محاولة لاجتياح منطقة الكرامة الواقعة على الضفة الشرقية لنهر الأردن. لكن ما لم يكن في حسبان القيادة الإسرائيلية هو حجم المقاومة الأردنية التي تصدت ببسالة لهذا الزحف العسكري.
رغم الفارق الكبير في التسليح، تمكن الجيش الأردني، بفضل التكتيكات الدفاعية المحسوبة، من تكبيد العدو خسائر فادحة، حيث تم تدمير أكثر من 88 آلية إسرائيلية وإسقاط عدة طائرات، ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب تحت وطأة الضربات المركزة. كانت هذه أول مرة يضطر فيها الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب من أرض المعركة دون تحقيق أهدافه، ما شكل ضربة موجعة لنظرية الأمن الإسرائيلي التي كانت تستند إلى تفوقه العسكري المطلق.
لم تقتصر نتائج معركة الكرامة على البعد العسكري فقط، بل كان لها تداعيات سياسية مهمة، حيث أعادت الثقة للجيوش العربية وأثبتت أن الاحتلال الإسرائيلي ليس قوة لا تقهر، مما مهد لاحقًا لإعادة بناء الجيوش العربية وتعزيز استراتيجياتها العسكرية. كما أنها عززت المكانة السياسية للأردن، وأكدت دوره المحوري في الصراع العربي-الإسرائيلي.
إضافة إلى ذلك، شكلت المعركة تحولًا في الفكر العسكري العربي، إذ أدركت القيادات العربية ضرورة تبني أساليب الحروب غير التقليدية لمواجهة الاحتلال، وهو ما تجلى لاحقًا في العديد من المواجهات بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي.
لا تزال معركة الكرامة حتى يومنا هذا رمزًا خالدًا في التاريخ العربي، إذ أثبتت أن الإرادة السياسية المصحوبة بالتخطيط العسكري الدقيق يمكنها التصدي لأقوى الجيوش. لقد جسدت هذه المعركة مفهوم السيادة الوطنية ورفض الإملاءات الخارجية، مؤكدة أن وحدة الصف والإعداد الجيد هما مفتاح النصر في أي مواجهة قادم
بهذا، تظل معركة الكرامة شاهدًا على قدرة الشعوب في الدفاع عن كرامتها، وتجسد درسًا سياسيًا وعسكريًا لأجيال قادمة، مفاده أن التفوق لا يكون بالسلاح وحده، بل بالعزيمة والإصرار.
المصادر والمراجع
1.الملك الحسين بن طلال، "مهنتي كملك"، دار نشر جامعة أكسفورد، 1999.
2.مركز الدراسات الاستراتيجية – الجامعة الأردنية، "معركة الكرامة: التحليل العسكري والسياسي"، عمان، 2005.
3.شمعون بيريز، "الشرق الأوسط الجديد"، دار الشروق، 1994.
4.المؤرخ محمود شيت خطاب، "الكرامة: أول انتصار عربي بعد النكسة"، بيروت، 1970.