تتألق بعض الأسماء في ذاكرة الاعلام الاردني لا لأنّها فقط ملأت الشاشات حضورًا، بل لأنّها تركت أثرًا يتجاوز اللحظة التلفزيونية، ويغوص في عمق الثقافة والمعنى. والحدسث هنا عن المتألقة بريهان أحمد قمق، الإعلامية، الكاتبة، المصورة، والمثقفة، التي خاضت تجربة ممتدة لعقود في قلب الإعلام العربي، قبل أن تنتقل بروح الباحثة إلى فضاءات أوسع، فيها التأمل والانخراط الإنساني، والتصوير كفعل وجودي.
وُلدت بريهان قمق في العاصمة الأردنية عمّان، المدينة التي أحبّتها وسكنتها وحملتها معها في الاسم والذاكرة، لتتّخذ لاحقًا اللقب الأدبي: "ابنة ربّة عمّون"، تعبيرًا عن هذا الانتماء الروحي والوجداني. درست العلوم السياسية في الجامعة الأردنية، وتخرّجت ببكالوريوس لم يقُدها إلى عالم التحليل السياسي التقليدي، بل إلى ميادين الإعلام، حيث تلاقت السياسة مع الصورة، والثقافة مع الموقف.
انطلقت من شاشة التلفزيون الأردني، ثم عملت مع عدد من المحطات العربية الكبرى: تلفزيون أبو ظبي، تلفزيون الشارقة، تلفزيون سلطنة عمان، إلى جانب تعاونها مع شركات إنتاج خاصة، فكانت صوتًا نسائيًا مثقفًا في فضاء ظلّ طويلًا محتكرًا لسطحية الشكل دون عمق المضمون.
في رصيد بريهان أكثر من ثلاثة عقود ونصف من العمل الإعلامي، أعدّت خلالها وقدّمت مئات البرامج التي تنوّعت بين السياسية والثقافية والاجتماعية والوثائقية والمنوعات والمسابقات، فضلًا عن برامج الأطفال.
من أبرز ما تعتزّ به، برنامج "رواد الغد"، الذي شكّل علامة فارقة في برامج المسابقات، وبرنامج "قضية للحوار" السياسي الأسبوعي الذي ناقش قضايا حساسة بجرأة، بالإضافة إلى البرنامج الاجتماعي الرائد "السينما وذوو الاحتياجات الخاصة"، الذي أتاح لجمهور من ذوي الإعاقة أن يكونوا طرفًا في الحوار والمشاركة، لا موضوعًا للحديث فقط.
كذلك قدّمت برنامج "دروب في حياتي"، والذي التقت فيه مئات الشخصيات العربية من مفكرين وأكاديميين وروّاد في الفكر والأدب والعلم، منهم: البروفسور منير نايفة، محمد أركون، جابر عصفور، علي حرب، محمد سابيلا، محمد المسفر، عبد الوهاب المسيري وغيرهم.
مع مرور السنوات، وبعدما عاشت في قلب الحدث واشتباك اللحظة، اختارت بريهان التراجع خطوة إلى الخلف، ليس انكفاءً، بل بحثًا عن معنى أعمق. اعتذرت عن كل دعوات الظهور والمشاركة الإعلامية، واختارت أن تكون خلف العدسة لا أمامها، لتبدأ رحلة جديدة مع التصوير الفوتوغرافي الضوئي، لم تكن مجرّد هواية، بل فلسفة حياة.
تقول في إحدى تأملاتها:
"عندما وقفت خلف الكاميرا، أدركت أن الرؤية ليست لهاثًا خلف الدراما اليومية، بل فعل وعي يعيد اكتشاف الوجود ذاته..."
أقامت خمسة معارض تصوير فوتوغرافي، وشاركت في مهرجانات عربية ودولية، ونالت جوائز مرموقة، منها اختيار صورها لزينة مستشفى الأطفال في سراييفو، وتكريمها من الملتقى الدولي للصور الفلكية والليلية في تونس، إضافة إلى استضافتها كضيفة شرف في المهرجان الأردني العربي للصورة الفوتوغرافية.
امتلكت بريهان قمق حضورًا بارزًا في المؤتمرات الثقافية والإعلامية في الوطن العربي. لم تكن ضيفة شرف فقط، بل مشاركة ومحاضِرة ومديرة ندوات، وساهمت في طرح قضايا جوهرية مثل:
المرأة والإعلام،
أثر الإنترنت على الصحافة،
العنف الجامعي،
الإعلام والطفولة،
المخيلة في مسرح الطفل،
سلطة الصورة في الإعلام الحديث،
فلسفة اللاعنف،
المرأة والتحديات المعاصرة،
التضامن الاجتماعي في عصر وسائل التواصل.
في أكثر من محفل، كانت بريهان قمق تمثل صوتًا مختلفًا، عارفًا، حادًا دون صراخ، وعميقًا دون استعراض.
من أبرز الجوائز التي حصلت عليها:
الجائزة الذهبية عن برنامج "مدينة الأطفال" في كل من دبي، البحرين، وتونس (1992–1994).
الجائزة الذهبية عن البرنامج الوثائقي "بوح المكان" – القاهرة.
شهادة تقدير من اليونيسيف عن برنامج "الجوع في عالم الجنوب".
تكريم من الشارقة، مؤسسة التعاون، ومنتدى الفكر العربي.
درع الشاعر البدوي الملثم من دارة الثقافة والفكر.
شهادة من الجامعة الأردنية كخريجة متميزة وإعلامية فوتوغرافية.
اليوم، تعيش بريهان أحمد قمق بعيدًا عن ضجيج الإعلام، لكنها تكتب وتنشر وتصور وتتأمل. تنشر مقالاتها الشعرية والسياسية والنقدية على منصات ثقافية إلكترونية، وتواصل التفاعل مع قضايا البيئة، حقوق الإنسان، ودعم ذوي الاحتياجات الخاصة.
تمارس رياضة السباحة، التسلق، المشي، اليوغا والتأمل، وتؤمن بفلسفة اللاعنف بوصفها أسلوب حياة وليس مجرد موقف.
هي زوجة الفنان الأردني المعروف حسن أبو شعيرة، وأم لساشا وسيف، وجدة لأربعة أحفاد يحملون النور في أسمائهم: تيا، منير، ألين، وبانه. تراهم امتدادًا للحياة، وتمنحهم ما اختزنته من التجربة والحنين والحكمة.
تجربة بريهان قمق ليست فقط قصة إعلامية ناجحة، بل رحلة إنسانية عميقة تسير من صوت الكاميرا إلى صمت العدسة، ومن حضور المنبر إلى تواضع المراقبة. اختارت أن تبتعد عن الضوء الإعلامي، فقط لتبحث عن ضوء آخر أعمق وأكثر صدقًا.
إنها واحدة من أولئك الذين لم يكتفوا بأن يكونوا "وجوهًا على الشاشة”، بل سعوا إلى أن يكونوا بصمة في الوعي الجمعي، ومرآة لأسئلة الإنسان الكبرى: من نحن؟ وما الذي يستحق أن يُروى؟