ليس كل رحيلٍ غيابًا، وليس كل وداعٍ نهاية، هناك أناسٌ، حين يغادرون، لا يتركون فراغًا في المكان، بل يوقظون فينا سؤالًا عميقًا عن الحياة والمعنى، وحين يترجّل الكبار عن صهوة الدنيا، لا تخفت أسماؤهم، بل تتجذّر في الوجدان وتتحوّل إلى بوصلةٍ أخلاقيةٍ نسأل بها أنفسنا، كيف يمضي الزمن بعدهم؟
لم يكن رحيل الشيخ جمال حديثة الخريشة نهاية، بل اكتمال مسيرة، خرج من صخب الحياة كما يخرج الحكماء بهدوءٍ عميق، وصمتٍ يحمل نورًا لا يُرى بالعين بل يُحسّ بالقلب، لم يكن رجل ألقاب، بل رجل مواقف، لم يطارد السلطة، بل كانت هي تُقاس بميزانه، لم يكن يرفع صوته ليُسمَع، بل كان حضوره يكفي ليُصدَّق، حتى في صمته… لم يكن صمتًا عاديًا، كان يربكك لأنك تشعر أنك أمام رجل لا يتكلم إلا حين يكون للكلام معنى.
في حضوره، لم تكن الحكمة كلمات تُقال، بل سلوكًا يُرى، ولم تكن الفروسية استعراضًا، بل خُلُقًا راسخًا، وكانت العسكرية عنده التزامًا صامتًا لهذا التراب، لا ضجيج فيه ولا ادعاء، ولم تكن الرجولة صورةً تُعلّق، بل مسؤوليةً تُحمل بثقلها وشرفها، لم يعرف القيم كشعارات، بل كطريقٍ يمشيه كل يوم، كان إذا صافحك، تشعر أن يده لم تكن تستعرض قوة، بل تمنحك طمأنينة.
الفارس الحقيقي لا يُقاس بعدد الرايات التي يرفعها، بل بعدد القلوب التي تستقيم حين تراه، هكذا كان جمال حديثة الخريشة، ورث عن والده الشيخ حديثة الخريشة ما هو أعمق من الاسم والهيبة… ورث البوصلة، لم يحمل التاريخ ليفاخر به، بل حمل الأمانة ليصون بها المعنى، لم يكن ظلًّا لماضٍ، بل امتدادًا حيًا لقيمٍ ثابتة.
كان يرى القيادة ضميرًا قبل أن تكون قرارًا، وجسرًا قبل أن تكون جدارًا، وخدمةً لا امتيازًا، لم ينجرف وراء الضجيج، ولم يتزين بالقشور، ولم يساوم على المعنى، كان ثابتًا في زمن التقلّب، هادئًا في زمن الفوضى، قويًا بلا استعراض، كان يزن الأمور بقلبه قبل عقله، وبالقيم قبل المصالح.
وحين ترجّل الفارس، لم يكن ذلك سقوطًا، بل غروبًا يليق بالكبار، رحل بهدوء يشبه طبعه، وترك وراءه دفئًا في الذاكرة لا يبرد، لم يكن رحيله غياب رجل، بل طيّ صفحة من الرجولة الحقة… تلك التي لا تُدرَّس في الكتب، بل تُعاش في الحياة.
كان يؤمن أن المنصب امتحان، لا غنيمة، وأن القيادة أمانة، لا وجاهة، وأن السمعة أثر، لا صورة، كان ينظر إلى نفسه من خلال ما يتركه في قلوب الناس، لا بما يمتلكه في يده، فترك سيرةً نظيفة، يستطيع الأب أن يحكيها لابنه بلا خوف، ويستند إليها الشباب بلا خجل، ويفتخر بها الوطن بلا تردد.
اليوم، لا يغيب أبو حديثة… بل يصبح معنى، فالكبار لا يرحلون تمامًا، بل يتحوّلون إلى موازين نحتكم إليها، وإلى أصوات هادئة تذكّرنا أن الطريق لا يُقاس بعدد العابرين، بل بصدق السائرين.
رحم الله الشيخ جمال حديثة الخريشة، غادر الدنيا كما عاش فيها، مستقيمًا في المعنى، نقيًّا في الأثر، هادئًا في الحضور.
ارتقى إلى الرفيق الأعلى، وترك بيننا نورًا لا يضجّ، وميزانًا لا يميل، وأثرًا لا يزول.