في عالمٍ حيث تُباع الأحلام بسعر الأوهام، تطلُّ علينا نجمةٌ سينمائية لامعة لتتحول إلى قائدةٍ لتيار يضع الفكر الراقي في مواجهة الحقائق العلمية. غوينيث بالترو لم تعد مجرد وجهٍ جميلٍ على الشاشة الفضية أو مجرد اسمٍ يرتبط بقصة حب عظيمة من بطولة "شكسبير عاشقاً"، بل أصبحت رمزاً لإمبراطورية "العافية" الفاخرة التي تبيع الوهم مُغلفاً بغلاف أنيق وبسعر مرتفع. فكيف تحولت هذه النجمة، التي يصفها كتابٌ حديثٌ بأنها شخصية "أكثر تعقيداً ونفوذاً مما يظن كثيرون"، إلى أيقونةٍ في صناعةٍ تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات، بينما تحذر منها مختصةٌ في المناعة بأن "الحقائق لا تُدرّ الأرباح"؟ هذه ليست قصة نجاح تقليدية، بل هي رحلةٌ تكشف عن كيفية تحويل الشهرة إلى منصة لنشر مفاهيم هشّة، تُقوِّض ثقة الجمهور بالمؤسسات العلمية وتُحوِّل السعي وراء الصحة إلى سلعة فاخرة ومساحةً للربح لا أكثر.
من الأوسكار إلى "الوهم المُعَلَّب": التحول المثير
كانت غوينيث بالترو في أواخر التسعينيات تجسيداً للنقاء والجمال الأرستقراطي في هوليوود، لتتسلم جائزة الأوسكار وهي في السادسة والعشرين من عمرها فقط. لكن هذا الوجه العام الساحر كان الأرضية المثالية لإطلاق مشروعٍ أكثر جرأة وتأثيراً: علامتها التجارية "غوب" (Goop). انطلقت هذه العلامة عام 2008 كنشرة بريدية بسيطة، لكنها سرعان ما تحولت إلى إمبراطورية تشكلت بجهدٍ شبه فردي منها لتسهم في تشكيل صناعة "العافية" العالمية التي تقدر قيمتها بـ 6.3 تريليون دولار. لم تبتكر بالترو هذا المجال، لكنها منحته لغة جذابة ومُغرية، تروج لحياة نقية بعيدة عن "السموم"، وتجمع بين البساطة والفخامة في آنٍ واحد. الأهم من ذلك أن هذه الحياة النقية تحمل كلفة باهظة جداً، حيث باتت "العافية" سلعة نخبوية تُباع لأولئك الباحثين عن الراحة النفسية، بغض النظر عن أساسها العلمي.
بيضة اليشم وغسول القهوة: وجوه العلم الزائف
لم تكتفِ بالترو بمشاركة نصائح حول أسلوب الحياة، بل تخطت ذلك إلى الترويج لمنتجات ونظريات تفتقر لأي أساس علمي متين. كان أبرز مثال على ذلك "بيضة اليشم"، التي بيعت بسعر 66 دولاراً كأداةٍ مهبلية لتعزيز "الطاقة الأنثوية"، لتنتهي القصة بدفع "غوب" غرامة قدرها 145 ألف دولار بسبب الإعلانات المُضلِّلة. كما روجت عبر منصتها لحقن شرجية من القهوة، ونشرت تأملاتٍ لشخصيات مثل الشامان دوريك فيريت، الذي يزعم في كتاباته أن الأطباء يروجون للعلاج الكيميائي بدافع الربح.
بهذه الخطوات، منحت غوينيث، بوجهها المشهور وعلامتها التجارية، شرعيةً لأفكار هامشية ونقلتها إلى دائرة الضوء. تقول أندريا لوف، اختصاصية المناعة والميكروبيولوجيا، في تعليق لاذع موجه لصناعة من هذا النوع: "الحقائق لا تدرّ الأرباح... ولا تثير الإعجاب". هذا بالتحديد هو جوهر الخطر الذي يمثله نموذج "غوب": فهو لا يكتفي ببيع المنتجات، بل يغذي حالة من عدم الثقة تجاه العلم المؤسسي والطب التقليدي، مما أسهم بشكلٍ لا يمكن تجاهله في أزمة المعلومات الصحية المضللة التي نواجهها اليوم.
نظام غذائي أم تجويع مُقنع؟ انتقادات تتصاعد
في محاولةٍ لجعل فلسفتها نمط حياة، كشفت بالترو مؤخراً عن روتينها الغذائي اليومي، لتصبح موضع انتقادٍ حاد من خبراء التغذية وعارضة الأزياء والناشطة تيس هوليداي، التي تعاني شخصياً من اضطراب في الأكل. نظام بالترو يعتمد على الصيام المتقطع لساعات طويلة، حيث تتوقف عن الطعام من السابعة مساءً حتى الثانية عشرة ظهر اليوم التالي، لتقتصر وجبة فطورها على مشروبات مثل عصير الكرفس مع الليمون. تليها التمارين الرياضية والساونا، لتتناول وجبة الغداء التي تكون في كثير من الأيام عبارة عن مرقة عظام فقط، بينما يقتصر العشاء على الخضار في إطار ما يسمى بـ "حمية باليو".
· خطر الحميات المقيدة: تعتبر أخصائية التغذية كيم ليندسي أن بالترو تروج لعدد من الأنظمة الغذائية المقيدة وغير المستدامة، مما قد يؤدي إلى تقلب الوزن وزيادة خطر الإصابة بالأمراض المزمنة واضطرابات الأكل.
· رسالة سلبية للجسم: تشير هوليداي إلى خطورة تقديم هذا النموذج على أنه "ملائم وجيد"، في وقت يكافح فيه المجتمع ضد سمات ثقافة الحمية "المرهقة" والمنتشرة.
· فجوة نخبوية: تروي هوليداي حادثة في حفل هوليوودي فاخر، حيث أعلنت بالترو أمام الجميع أنها ستتناول مع أصدقائها "بيتزا القرنبيط" الخاصة من دون جبنة، في موقف يعكس الفجوة بين عالمها النخبوي وحياة الناس العاديين.
"أولاد المحسوبية": دفاع بالترو عن الامتياز
في تعاملها مع قضايا تتجاوز الصحة، أظهرت بالترو موقفاً مثيراً للجدل فيما يخص "ثقافة أولاد المحسوبية" في هوليوود. دافعت عن حق أبناء المشاهير في اتباع خطى آبائهم، قائلةً إنه لا حرج في ذلك، تماماً كما لا يُهاجم طفلٌ يرغب بأن يصبح طبيباً مثل والده. وأضافت أنه إذا نشأ الطفل في منزل يضم فنانين، فمن الطبيعي أن ينغمس في عالم الفن.
لكن دفاعها حمل إقراراً ضمنياً بعدم تكافؤ الفرص، حيث أقرت بأن كونك "ابن شخص ما" يمنحك وصولاً لا يتمتع به الآخرون. لتعود وتؤكد أن هذا الامتياز يفرض مسؤولية مضاعفة: "عليك أن تعمل بجهد مضاعف تقريباً وأن تكون أفضل بمرتين". هذا الموقف يعكس جانباً من رؤيتها للعالم، حيث يتم قبول الامتياز كأمر واقع، على أن يوازيه جهد لإثبات الذات، وهو منطق يرى فيه منتقدوها تبريراً للبنية الطبقية في الصناعة الفنية بدلاً من تحديها.
الوهم له ثمن، والعافية ليست سلعة
في النهاية، قد لا تُذكر غوينيث بالترو في المستقبل بسبب أدوارها السينمائية بقدر ما ستُذكر كساحرة العصر الحديث، التي أتقنت فن تحويل القلق الإنساني القديم نحو الصحة والجمال إلى سلعة فاخرة قابلة للتغليف والبيع. لقد كشفت للعالم، ربما عن غير قصد، عن حجم الفراغ الروحي والقلق الوجودي الذي يمكن لاقتصاد السوق أن يستغلّه، ومدى استعداد الناس لدفع الثمن من أجل وعدٍ بالطمأنينة، حتى لو كان هذا الوعد قائماً على علوم هشة.
يقول أحد الخبراء إن صناعة العافية التي تفوقت في حجمها على شركات الأدوية الكبرى، "تعتمد في أرباحها على الخوف والحلول غير المثبتة". وهنا تكمن المفارقة الأكبر: في عالم يزداد تعقيداً وتتعرض صحتنا فيه لتحديات حقيقية، ينتشر نموذج يبيع الوضوح المزيف والبساطة الخادعة. السؤال المصيري الذي تتركنا إمبراطورية "غوب" أمامه ليس عن فعالية بيضة اليشم أو طعم مرقة العظام، بل سؤال أعمق وأكثر إيلاماً: هل أصبحت راحتنا النفسية وصحتنا مجرد سوقٍ آخر، تُدار بلغة الإعلانات الجذابة بدلاً من لغة الأدلة العلمية الرصينة؟ وبهذا، تتحول النجمة التي كانت تبيع لنا أحلاماً على الشاشة، إلى تاجرةٍ تبيع لنا أوهاماً في حياتنا الواقعية، وتذكيراً صارخاً بأن للوهم ثمناً باهظاً، يدفعه جيب المستهلك أولاً، وثقافته وصحته المجتمعية أخيراً.