لم يعد مقبولاً أن يبقى الحوار بين وزارة التربية والتعليم، ونقابة المعلمين يُراوح مكانه، وياأخذ الطلبة رهينة لتجاذبات سياسية، وانتخابية قادمة، ويبدو أن مهارات التفاوض، وغياب الخبرة، والنضج في تقدير الموقف، ومدى إدراك اللحظة التي تقتضي عدم المضي قدماً في الرفض العدمي من طرف، أو تقديم التنازلات غير المجدية من الطرف الآخر، وكل ذلك يؤدي في المحصلة إلى وصول الحوار لطريق مسدود، وعندها تضيق الخيارات، ويصبح خيار الحسم الذي يُحاكي المصلحة الوطنية العليا، ومتطلبات الأمن الاجتماعي ضرورة، واللجوء إلى القضاء على الأقل خيار لا مفر منه.
كنت أدرك بأن النقابة لن تقبل حلول الحكومة؛ لأن حالة الاستقواء التي تعتري سلوك أعضاء مجلسها المستند إلى عدد المعلمين المتوقفين عن العمل، وحجم الإلتزام بالإضراب، ونسيت، أو تناست تقدير زلزال الآثار الناجمة عن حالة الرفض العدمي والتي ستنعكس على الجهد النقابي برمّته، والتي لن يكون أقلها تعديل التشريعات بما ينزع صفة الإلزامية في الانتساب لنقابة المعلمين، وهو ما سيعض النقابيون أصابعهم ندمًا –ونحن معهم– عليه.
لم يعد أمام الحكومة خيار سوى اللجوء إلى القضاء الإداري في المحكمة الإدارية، وطلب إلغاء قرار نقابة المعلمين بإعلان الإضراب، وتقديم طلباً مستعجلاً لوقف الإضراب لحين البت في الدعوى الأصلية في القضاء الإداري في محكمتي؛ الإدارية، والإدارية العليا، وعندها سيضحي تطبيق القرار القاضي واجباً على الجميع، فإن كان قرار المحكمة بوقف الإضراب فعلى النقابة أن تصدع له دون إبطاء، وإن رفضت المحكمة قرار الوقف، والإلغاء فعندها يصبح رضوخ الحكومة لمطالب المعلمين امراً لا بد منه.
المتضرر الوحيد لغاية الآن مما يجري هو الطالب، ويبدو أنه أضحى رهينة الصلف، والعناد، والاستقواء، وغياب الخبرة، والنضج النقابي، والتوظيف السياسي لمطالب المعلمين التي غاب فيها الحكمة، وسلامة تقدير الموقف، يرافق ذلك بعض العثرات في مهارات التفاوض من جانب وزارة التربية والتعليم، والذي أدى إلى تفاقم الغرور لدى بعض أعضاء مجلس النقابة بصورة دعتهم الى ممارسة أساليب الردح السياسي، وبطريقة لا تليق، ومكانة المعلم الشاخصة في ضمير كل الأردنيين، وعلى امتداد مساحات الوطن.
المفارقة العجيبة هو نكوص النخب التي تعبر عادة عن مفهوم الدولة، وتحرص عليه عن القيام بدورها الوطني، والاكتفاء بدور المتفرج، أو المحرّض بشكل خفي، وهو ما يدعونا إلى ضرورة إعادة النظر في صياغة، وتعريف مفهوم رجال الدولة، وأدوات الحكم، وبصورة تضبط أدوات الإيقاع الوطني بما يمكن الدولة من الحفاظ على هيبتها، وشوكتها الأدبية، والقانونية، ويكفل تطبيق مبدأ سيادة القانون في سلوك الحكومة والأفراد على حدٍ سواء.
لقد بات من الضروري أن تعيد الدولة النظر في أساليب تحالفها مع بعض القوى السياسية -وعلى الأخص قوى اليسار- والتي ما زالت تمارس دوراً مزدوجاً، وخجولاً في الانتصار لمفهوم الدولة، وإسناد أدوات الحكم بما يُلائم حالة الشراكة الواضحة التي اعترت العلاقة بين السلطة، وقوى اليسار منذ زمن بعيد، والتي تفاقمت بشكل واضح بعد الربيع العربي في العقد الأخير.
لم تعد مقبولة حالة الحب من طرف واحد التي شوهت السلوك السياسي لعلاقة التحالف تلك، وأمسى من الواجب الشروع في إعادة تقدير الموقف من ذلك.
آن الاوان لكل المؤسسات، والقوى التي تملك حق تقدير الموقف الوطني في بناء التحالفات، ومدى إشراك القوى السياسية في الحكم؛ لذا يجب أن تعيد بناء تلك العلاقة على أسس جديدة يحفظ مفهوم مصلحة الدولة، وأساليب، وقواعد الشراكة السياسية، ومتطلباتها الوطنية، وآن الأوان لأن نعيد قراءة الدروس، والعبر المستفادة من أزمة المعلمين بما يمكن الدولة من منع التوظيف السياسي للقضايا المعيشية المطلبية، فالوطن لم يعد يحتمل مزيداً من الاستقواء، وجلد الذات، والأخطار المحدقة به أكبر بكثير مما يظن البعض.