الدور السياسي للعسكر بين مطرقة الأمن الوطني .. وسندان التحول الديمقراطي
بقلم اللواء الركن السابق
الدكتور محمد خلف الرقاد (*)
قبل أن أبدأ أرجو أن أنوه بأن هذا المقال قد نشر في عام 2013، وتمت قراءته والاطلاع عليه من قبل مايزيد على (52000) قاريء ، ورغبت في إعادة نشره في هذه الأيام لإبراز أهمية المحافظة على الأمن الوطني ، وفي وقت الأزمة والشدة يبقى العسكريون والأمنيون مع قيادتهم السياسية هم الفيصل في الأزمة ، ولهم اليد الطولي في إسناد متخذ القرار ... لاحظنا بعد اجتياز الأردن بنجاح لإنجاز الاستحقاق الدستوري بانتخاب أعضاء المجلس النيابي 19 في المملكة الأردنية الهاشمية ظهور بعض التنمر على القانون ، والشب عن الطوق من قبل أطراف ربما أخذتها نشوة النجاح والعزة بالإثم ، وحدثتها نفسها بأن التطاول على القانون وبعض الانفلات قد يطرحان أبعاداً أمنية جديدة قد يُقصد منها الإشارة إلى أن القانون والنظام والأجهزة الأمنية ليس بوسعهما وضع حد صارم لهذا الانفلات ، وشاهدنا دخول العسكرية والأمن دائرة الفعل حينما يقترب الشرر من الأمن الوطني ، فرئيس هيئة الأركان المشتركة في القوات المسلحة الأردنية / الجيش العربي تحدث بكلام بليغ موجز قصير أوصل الرسالة الفعلية ( لن تُمس هيبة الدولة ) ، وتلاه مدير الأمن العام بكلام ثابت يضع النقاط على الحروف ... ، على صعيد دولي رئيس أركان القوات الأمريكية قال قبل عدة أيام في فيديو منشور على مواقع التواصل الاجتماعي بما معناه : ( اذا جاء تاريخ 20 نوفمبر 2021 - وهو موعد تبادل السلطة بين "بايدن" الرئيس المنتخب والرئيس الحالي "ترامب" - ولم يُخْلْ "ترامب" البيت الأبيض فإن الجيش سيقوم بواجبه لأن من وظائفه حماية الدستور الأمريكي ) .
قبل البدء بتناول الفكرة موضوع المقالة ، أود التأكيد على أن هذه الفكرة ليست مع أي توجه ، وليست ضد أي توجه ، أنما تهدف إلى إلقاء بعض الضوء على أهمية الفكر العسكري الاستراتيجي في صناعة واتخاذ القرار في أي نظام سياسي .
ففي ظل الدعوات المتنامية للتحولات الديمقراطية في العالم ــ وبغض النظر عن مدى خدمة هذه الدعوات للأهداف السياسية للنظم السياسية الداعية لذلك ــ يظل الفكر الاستراتيجي العسكري عصياً على الخروج من دائرة الفعل السياسي حتى في أعتى الدول تمسكاً بحبال الديمقراطية، وذلك لسبب بسيط أنه مادام هناك ضرورات ودواعٍ للأمن الوطني ــ أو كما يسميه بعض الباحثين والمهتمين بالأمن القومي ــ لأي دولة أو أي نظام سياسي ، فلن يستطيع أي نظام سياسي استبعاد الدور السياسي للفكر الاستراتيجي العسكري ، سواء أكان في الدول المتقدمة التي تتبنى أحدث النظريات الديمقراطية أم الدول التي مازالت في إطار التوجه نحو الديمقراطية أم الدول المنخرطة فعلاً في الأوقات الحالية في عمليات التحول الديمقراطي ام حتى في الدول التي مازالت تطبق النظم السياسية الشمولية .
وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة تنافس وتسابق الباحثين في تأطير العلاقات مابين القيادات العسكرية والقيادات السياسية في النظام السياسي الواحد نفسه ، وكثيراً ما يتناول بعض المحللين والخبراء الاستراتيجيين أمثالاً من تجارب دول كان يبدو فيها تحكم العسكر في رسم السياسات وصناعة القرارات واضحاً ، وتحولت بعد ذلك إلى دول تعتبر في نظر بعض الاستراتيجيين السياسيين دولاً ذات تجارب ناجحة في استبعاد الدور السياسي للفكر العسكري مع السعي الموصول لتقليصه وبطرق قانونية ، وهذا بالطبع له أثر سلبي يتلخص في إضعاف المؤسسة العسكرية وقدرتها على الاحتفاظ بمواقف عسكرية تكتيكية ربما تترك أثراً سلبياً على قدرات القيادة السياسية في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، فالرئيس الأمريكي أوباما في عام 2013 لم يعلن قراره السياسي باتخاذ إجراء عسكري ضد النظام السياسي في سوريا إلا بعد أن أكد له وزير دفاعه ورئيس أركانه بأنهم جاهزون لتنفيذ أي إجراء عسكري مطلوب وحسب السيناريوهات الموضوعة ، وهذا بحد ذاتة إشارة ذات دلالة على أهمية الدور السياسي للعسكر في اتخاذ القرار السياسي ، فبناء على المعلومات والتحليلات المقدمة من الدوائر العسكرية والأمنية ذات الاختصاص في مراعاة الأمن القومي الأمريكي ، خرج الرئيس الأمريكي على الملأ وأعلن قراره السياسي القاضي بالقيام بإجراء عسكري ضد النظام السوري في تلك الفترة الذي أكدت المعلومات على استخدامه للسلاح الكيماوي الذي أدّى إلى قتل أبرياء مدنيين ، وأن لهذا الأمر تأثير على الأمن القومي الأمريكي .
وأعود هنا للتأكيد على أنه من الصعب جداً الاستغناء عن الدور السياسي للفكر العسكري ، ولكن النجاح يكمن في كيفية توظيف هذا الفكر العسكري لتحقيق أهداف القيادة السياسية وبأدوات ديمقراطية . بالتأكيد أن هذا الموضوع يحتاج إلى جهد كبير من الباحثين ، وحتى يكون البحث ــ من وجهة نظر الكاتب ــ منهجياً وعلمياً ومتوازناً ، لابد من أن يعتبر الأمن الوطني للدولة أو للنظام السياسي هو وحدة التحليل ، إذ يعتبر الأمن الوطني من وجهة نظر الكثير من الخبراء والباحثين هو حجر الزاوية في تحقيق المصلحة العليا للدولة ، حيث أنه يتداخل في حدود متفاوتة مع كل من الشأن السياسي والاقتصادي والتعليمي والثقافي والإعلامي .... وغير ذلك .
قِدَماً كانت الاستراتيجية تعرف بأنها : " فن الجنرال " أي فن العسكر ، ومع التطورات في الاستراتيجيات الحديثة و" توسع بيكارها" وتداخل العسكري مع السياسي والاقتصادي والثقافي والتعليمي والإعلامي ، أصبح هناك تطور في الاستراتيجية أعطى زمام المبادرة للقيادة السياسية ، لكن بقي المرتكز الأكثر أهمية وهو الفكر العسكري الذي يرسم الاستراتيجيات والسياسات العسكرية التي تسند القيادة السياسية , ومن المعروف في ابجديات الاستراتيجيات الحديثة أن القيادة السياسية هي التي تضع الأهداف السياسية العليا للدولة ، ويأتي دورها في توظيف الاستراتيجيات الأخرى ومن أهمها الاستراتيجية العسكرية ( الفكر العسكري ) لتحقيق أهدافها السياسية العليا ، حيث بقيت الاستراتيجية العسكرية تشكل الحلقة الأكثر أهمية وقوة ، وبقيت تشكل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة دوراً سياسياً مؤثراً في صنع واتخاذ القرار الذي يحقق الصالح العام ، وهناك أمثلة في التاريخ السياسي الذي خالفت فيه بعض القيادات السياسية القيادات العسكرية في قرارها ، وكان من نتائجها الخسارة سياسياً وعسكرياً ، وحتى نكون منصفين أيضاً هناك أمثلة في التاريخ العسكري أيضاً خالفت فيها القيادات العسكرية القيادات السياسية وترتب على ذلك خسارة للمصلحة العليا لنظامها السياسي بشكل عام، والأمثلة متعددة من الحربين العالميتين الأولى والثانية وغيرها .
لكن السؤال الأكثر أهمية يتلخص في كيف ينبغي النظر إلى الدور السياسي للفكر العسكري المتنور والمتطور ، وكيف يمكن تطوير هذا الدور بأدوات ديمقراطية خدمة للصالح العام ، وهنا من المعروف أن سلسلة القيادة السياسية لأي نظام سياسي تشتمل على رئيس حكومة يرتبط به وزير دفاع ، وهذا بدوره يرتبط به رئيس أركان ، وهناك قيادات ميدانية من مختلف المستويات ترتبط برئيس الأركان ، وفي هذا السياق يأتي توظيف الدور ، وهو المواءمة بين ما هو استراتيجي ، وما هو تكتيكي ، فوزير الدفاع هو الوزير الذي يختاره رئيس الوزراء للإشراف على الاستراتيجية العسكرية لخدمة الأهداف السياسية للدولة ، ويمكن اعتباره الرتبة الأعلى على القوات المسلحة ، في حين يعتبر رئيس الأركان هو الرتبة الأعلى في القوات المسلحة ، وكل ما يجري في القوات المسلحة هو من اختصاصه ، لكن هذه العلاقة مابين رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الأركان ظلت متماهية الحدود لم تؤطرها بعض الدساتير والقوانين في بعض النظم السياسية ، كما بقي الأمر غير واضح المعالم تماما ــ وبخاصة بعض القضايا التي تهم الأمن الوطني ــ في الأدبيات العسكرية والسياسية مما حدا ببعض رؤساء الحكومات في بعض الدول بتولي منصب وزير الدفاع ، وفي مثل هذا الوضع تثار هناك بعض الإشكاليات في الصلاحيات ، وبخاصة حينما يحدث تباين في استراتيجيات الأمن الوطني واستراتيجية الأحزاب السياسية في ظل التحولات الديمقراطية ، وهذا قد يفضي في بعض الأحيان إلى إشكالية في الحقوق والواجبات .
لكن من المفيد الإشارة إلى أن المؤسسات العسكرية لديها إمكانات من خلال دوائرها المختلفة في امتلاك المعلومات ، ولديها القدرات الهائلة في التحليل الذي ينطلق غالباً من ركائز الأمن الوطني للنظام السياسي ، ربما بشكل أوسع وأكبر من الدوائر التي تتصل مباشرة بالقيادة السياسية (الحكومة ) ، لذا نرى بأن هذه الدوائر العسكرية والأمنية تمتلك في كثير من المواقف مفاتيح الحلول التي تقدمها لمتخذ القرار ــ وهو قمة الهرم السياسي بالطبع ــ الأمر الذي يجعل الدور السياسي للعسكر في اتخاذ القرار على درجة كبيرة من الأهمية ، بل يصعب جداً الاستغناء عنه نظراً لما تتطلبه مفاتيح الحلول المشار اليها أعلاه من السرية في كثير من الأحيان ، والتي ينبغي أن تبقى محصورة في عدد من الدوائر المعنية بصنع واتخاذ القرار ، فربما يؤدي التوسع في نشرها وتعميمها خارج الدوائر المعنية إلى تسريبها الذي سيقود حتماً إلى فشلٍ في تحقيق الأهداف السياسية للنظام السياسي بشكل عام .
ومن هنا يمكن القول بأن النظرية التي تسعى إلى استبعاد الدور السياسي للفكر الاستراتيجي العسكري تحتاج إلى مزيد من المراجعة والتدقيق ( وهنا يتم استبعاد كل من يأتي بطريقة غير مشروعة ) من وجهة النظر هذه التي تدعو إلى أن يتكامل ما هو عسكري مع ما هو سياسي في إطار واحد يهدف إلى تحقيق المصلحة العليا للدولة ، فمتخذ القرار لا يمكن أن يستقر قراره ، ويتيقن ضميره من الجزم في اتخاذ قراره إلا بعد الاستناد إلى تحليل معلوماتي مستفيض من دوائر عسكرية واستخباراتية وأمنية ، وتؤكد وجهة النظر هذه على أنه كلما ازداد اعتبار الدور السياسي للعسكر بأدوات ديمقراطية كلما كان القرار السياسي أقرب إلى الكمال ، ناهيك عن الحافز المعنوي لمزيد من الجدية والاهتمام والتفاني في التحليل المنطلق من الحرص على منظومة الأمن الوطني للدولة .
أخيراً أعرف بأن هذا الطرح سيفتح الشهية على الحوار والنقاش وربما يثير جدلاً سياسياً أكثر منه عسكرياً ، وربما يعتبره البعض ترويجاً للدور السياسي للعسكر ، ولكن يمكن الدفاع عنه بأنه ترويج لنجاعة الفكر العسكري في مواجهة المواقف ذات التأثير المصيري على مسيرة الدولة ، وهناك أمثلة كثيرة على نجاح النخب العسكرية التي تحولت إلى نخب سياسية بحكم علمها وفكرها وخبراتها ، فبعد الانتهاء من شرف السلك العسكري ، لاشيء يمنع من الانخراط في العملية السياسية خدمة لمصالح الدولة العليا ، وهناك الكثير من النخب ذوات التعليم والثقافة العسكرية إلى جانب تحصيلها العلمي وكفاءاتها الأكاديمية اصبحت نخباً سياسية بامتياز في أكثر دول العالم تحضراً وعلماً وثقافة ، وهذه دعوة لقراءة التاريخ الصديق والمعادي.
* مدير التوجيه المعنوي الأسبق ، وأستاذ في العلوم السياسية ( محاضر غير متفرغ في الجامعات الأردنية)