نيروز الإخبارية : كتبت جميلة عويصي السرحان..
عاد بحباته التي نترقب لتعيد البروده لقلوبٍ آلمها الحر ، عاد بهوائه ورياحه وبرقه ورعده ، حاملاً معه من الأجواء ما يكفي لتستكين وتهدأ وتستذكر وتدفأ.
عاد برائحة الأرض مع أول قطراته التي ترتطم بالتراب لتنثر عبيراً ننتظره بلهفه.
رائحة الارض نستنشقها كغريب لسنوات يحاول ان يستجمع ذكراه ما أن يملأ رئتيه من هذه الرائحة العبقة.
تلك القطرات وتلك الطقطقات على سطوح المنازل وعلى زجاج النوافذ وصفير رياح الأساطير وحبات الثلوج ، كأنه اللحن المعشوق للنفوس ، وهو اللحن الوحيد الذي كلما عزفته الغيوم تنصت إليه وكأنها المرة الأولى التي تستمع إليه.
نشأنا على حبّ المطر ، وكل الفقراء في وطني نشأوا على حبّ المطر الذين تتلمذوا في مدرسه المطر واستنشقوا هواه رغم برده على جلودهم تارةً وتارةً على جيوبهم.
كيف لا يعشقون المطر وهو يذكرهم بأحضان امهاتهم اللواتي يخبئنهم بدفء الروح وآبائهم الذين أفنوا أعمارهم لتراب الأوطان ، ومنه طيّنوا بيوتهم ومن قمحه صنعوا لقمة عيشهم.
فمع تلك القطرات والطقطقات نستذكر أنفسنا ونحن نركض تحت قطراته نبتل بالماء حتى ترتوي أرواحنا ، نبرد حتى نفقد الشعور بأصابعنا ونضحك ونتقافز بالماء هنا وهناك ثم نلوذ إلى دفء أحضان أمهاتنا في أخر النهار ، فتستقبلنا أمهاتنا لينتزعن عنا هذه الملابس ويجففنها على صوبات الحطب والكاز والغاز .
فعطر الشتاء ليس كأي عطر عطره رائحة التراب من الأرض ، رائحة العدس الفواح من المنازل ، رائحة الكلامنتينا في أيادي الصغار والذرة والفشار ، والكستناء والبطاطا وقشور البرتقال على صوبات الكاز وهم يتجمعون حولها في المساء.
فجمال الشتاء لدينا ليس كأي جمال ، إنما بغيوم حالكة كنّا نترقبها غيمةً غيمة ، وببرامج الأرصاد الجوية التي نتابعها يومياً مستبشرين بأمطارٍ وعطلات وصرخات تعلو هنا وهناك عند إعلان أيام العطل.
أمّا ملابسنا الشتوية فكانت لا تتشابه ابداً فمهتها الأولى والأخيرة هي أن تدفئ أجسادنا من البرد ، فتشاهدنا نلبس أزواج كثيرة من الجوارب ، وألواناً متعددة من القفازات والكنزات فحينما تلقي نظرة علينا وكأننا جمعنا كل ألوان الربيع بزهره وعشبه ونثرناه على أنفسنا .
ناهيك عن ليال الشتاء والتي ليست كأي ليالٍ كنا ننام بجانب بعضنا البعض وتحت البطانيات الملونة وألحفة الصوف والمطر يطرق الأبواب والشبابيك ليدخل إلى قلوبنا دفئاً حنوناً فنفرح كما تفرح الطيور في السماء .
ومع كل هطول نرسم ذكرياتنا بنفسنا على زجاج النوافذ ومعها أحلامنا ونحن ندعو أن يروي قلوبنا خيراً وحبّاً وسعادةً كما يروي الأرض مطراً وخيرا كثيراًً .