هكذا وجدنا أنفسنا نعيش في تلك المساحة من الأرض ، حارتان متجاورتان، لم يطرأ جديد، قلما رحل أو نزل أحد، لا استطيع إنكار الإختلافات بينهما..... ملامح الأشخاص، حدة السمرة مثلا، وطبيعة الأزياء، وما يفوح من وراء النوافذ.. أشكال البيوت ، ألوان الدهانات، بلاط أم صبة ،أصناف المزروعات في الأحواش وطريقة إغلاق المداخل.. براميل مثقلة بحجارة أم بوابات كبيرة ، كان مشهد الورد الجوري والقواوير الحمراء يطغى مشهدها على مداخل بيوت الحارة الفوقا.. في حين تلامس االمرمرية ومسكب نعنع زوايا برندات بيوت الحارة الثانية المباطنة للسيل، في خلفيات الدور زُرعت "شوية" باميا وكوسا ورشاد وكم بيت بندورة. كما أنه لا يوجد شخص في حارتنا يمتلك سيارة، كل مواصلاتنا عامة، عدة مرات استعان أهلنا بسيارة من الحارة الفوقا في الحالات المرضية الطارئة.
كان الإختلاف يشملنا نحن الكائنات الصغيرة، عندهم ثلاثة بسكليتات، وعندنا بسكليت واحد، بدون كرسي للأسف،نتداور قيادته وقوفا.. قلما نلعب سويا، عدا كرة القدم، دائما تنتهي اللعبة بشجار وشتائم ورمي الحجارة وحفر قبور الأجداد، لطالما تفوقنا عليهم خاصة فيما يتعلق بالشتائم تحديدا.فقاموسنا أغني من قاموسهم كثيرا.
الفروقات واضحة كذلك على مستوى أخرى ، روحنا تعاونية وكثيرة هي المرات التي تشاركنا فيها بقنينة كازوز وحفنة قضامة، بينما كان واحدهم يتباهى أمامنا كبرغوث عند الدكانة، ممسكا بكازوزته دون شريك، الغريب أننا كنا لا نرفض لبس ثيابهم التي تعطيها أمهاتهم لإمهاتنا عند تبديل ثيابهم العتيبة ، مرة وجدت رفيقنا هدى شلن في جيب بنطلون من بناطيلهم ...
لا استطيع تحديد لا الوقت ولا الظروف التي بدأت بها معاركنا مع "مخلوقات" الحارة الفوقا، ولا أتذكر سبب شرارة كل موقعة، ومن المبادي كي نصفه بالأظلم، ببساطة معارك متواصلة، تثور لأبسط الحوادث، مرة استيقظت ولم أجد سيارتي مطرح ما ركنتها ، سيارتي معروفة ومناسبة لحجمي، كنت الوحيدة التي تدخل عجل سيارة تويوتا من أعلى الطلعة دون أن يفلت مني ،يومها نشبت حامية الوطيس بسبب هذه الحادثة ، في يوم آخر هاجمت شلة منهم رفيقنا محمود في موعد حلة المدرسة، اعتقد كان السبب المباشر محايته العجيبة، فزعنا وهزمناهم شر هزيمة،اوقعنا بهم إصابات مباشرة، شلخنا كنزة ليث و أدمينا برطم أريج... على فكرة كان هناك أيضا تباين واضح في الأسماء ما بين حارتينا ، ففي حين غلب على حارتنا تكرار لإسماء أجدادنا.. سالم، نوفة،صابر مثلا... كان يغلب على أسمائهم الحداثة والرقة.
كبرنا و تشتتنا في الدنيا، نطرق أبواب حظوظنا، ذابت اللقاءات مع أولاد الحارة الفوقا، مع الأيام نشأت بين حارتينا حارة جديدة، أسموها الحارة "العلقانة" .. تلاشت الذكريات كنقطة حدودية مهجورة.... البارحة بعد زمن بوارح منقطعة زمن...تواصل معي الرفيق محمود، أرسل لي رابط صفحة فيسبوك هانية ملكة جمال الحارة الفوقا أيام صغرنا.. تفرجي ما أروعها مازالت متميزة.. يا الله.. إنها تتسلم جائزة الإبتكار الدولي .. غرغرت عيوني فرحا لهانية..وهل ينسى الفضل إلا أولاد الكذا.. ؟!!! .. ألم تُشوّح لي ذات مرة من وراء زجاج سيارتهم الخلفي عندما كنت أحبس الشياه للحليب.. ؟!!!
منذ فترة وجيزة، تم تغيير الأسم من "الفوقا"إلى "العليانة" بعد الإنتخابات البلدية الأخيرة ، ثُبّت المسمى الجديد على شواخص موزعة من أول مدخل البلدة صولا إلى بيت أهل أريج..
... يوم الأحد اجتمعنا في بيت المهندس نضال، ابن الحارة البار، وقعنا عريضة رفعناها للجهات المختصة ، نطالب فيها بتغيير إسم حارتنا من التحتانية إلى حارة الشهيد...على مهلنا، حيث ننشغل حاليا بعد حصولنا على منحة أوروبية في ترميم بعض بيوتنا التي تغشلاها السيل في شتاء العام الفائت... نسابق الوقت خشية سيل جديد يأتي على ما تبقى من حوائطنا..