من رحم المعاناة يولد العظماء ويولد النجاح، ويولد الأمل "ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ"، فما من عظيم ذي إنجازات ونجاح إلا وعاش قصة معاناة هي التي أوصلته إلى سعيه المثمر، ونجاحه المبهر، ومن أمثلة هؤلاء العظماء قدوتنا الأول وشفيعنا الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - فكم عانى رسولنا الكريم من الويلات ومن التكذيب ومن الشتم ومن الضرب في بعض الأحيان، لكن هذه المعاناة من بعد صبره جعلته يدخل مكة فاتحًا، فخلّفت لنا هذه المعاناة أعظم شخصية عرفها التاريخ، فنجد الكثرة في أتباعه ومحبيه.
ومن الأمثلة - أيضًا - الأديب العباسي الجاحظ الذي وُلد يتيمًا وعاش فقيرًا معدمًا، فكان يبيع الخبز والسمك في أسواق سيحان في البصرة، وقد كان لقباحة شكله ودمامته الأثر النفسي الكبير، وقد حُرم من التعلّم في بداية حياته لكي يكسب عيشه، واقتصر علمه في بادئ الأمر على العلم العربي التقليدي (الكُتّاب)، فلم يمنعه هذا الأمر من مواصلة العلم، فكان يتّخذ الكتاب أستاذًا له في حِلّه وترحاله، وعليه، فإنّ هذه المعاناة أنجبت لنا أعظم مؤلف وأديب في العصر العباسي - إن لم أقل في جميع العصور - صاحب الكتب المشهورة في الأدب العربي.
الأمثلة كثيرة على الشخصيات العظيمة التي وُلدت من رحم المعاناة، وبناء على ذلك، فإنني أستغرب وأنكر ما نشاهده اليوم من دلال الوالدين الزائد للأبناء، لا بأس بقليل من الدلال للابن، لكن بقدر معقول وحس مسؤول.
لا بد من أن يعي الوالدان أنّ عليهم أن يُشعروا الأبناء بحس المسؤولية، "اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم"، فعلى الوالدين أن يكلفوا أبناءهم ببعض المسؤوليات، وأن لا يسرفوا بهذا الدلال، الذي ربما يدفع الأبناء إلى الهاوية، فيدفعهم إلى قعر مظلم لا يقدر الوالدان أن يتداركا هذا الأمر بعد أن يكبر الابن.