ومن حقها علينا أن نحجَّ إليها وأن نسير في أزقتها وأن نتبارك من قدسيتها، وأن نصلّي في مقدساتها وأن نضيءَ شموعَ الإيمان والصلاة فيها وأن نطربَ لسماع أجراس كنائسها وتكبيرات الله أكبر من مآذنها، والتي ستبقى مجتمعة الشاهد على تاريخ عريق ممتد منذ العهدة العمرية في العام ٦٣٦ ميلادية وصولا إلى أشرف وصاية على مقدساتها وهي الوصاية الهاشمية بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم، بشرعيتها الدينية والتاريخية وصون الأمانة لتبقى القدس ومقدساتها محافظةً على قدسيتها وعروبتها وإرثها الديني الإسلامي-المسيحي، والوضع القائم والقانوني فيها.
كذلك فنحن بزيارتنا إنما نتنفس هواءها ونتذوق كعكها ونتفقد أهلها الصامدين والمرابطين فيها ونزور أهلنا وخلاننا وأصدقاءنا، الذين تربطنا معهم حبُّ هذه الديار الحاضنة لأقدس مقدساتنا، والتي تحمل أروع صور التلاحم والأخوة والوئام الديني، والتي يفوح عبق روحانيتها في أزقتها وحواريها وفي دروب آلامها وساحة قيامتها وفي الباحات الفسيحة لأقصاها المبارك ومداخله المؤدية إليه.
فزيارة القدس حق وواحب مقدس ودعم لصمود أهلها وعروبتها، وهو حج مقدس للوقوف على صُلب إيماننا الممتد في عمق التاريخ دونما إنقطاع والشاهد على عظمة المكان الذي يصدح بصوت المحبة رغم التنوع، وصوت الوئام الديني رغم التعددية، وصوت الحوار بظّل الإختلاف. فالقدس تجمعنا جميعًا كلّما تفرَّقنا، وكلّما إنحرفنا عن بوصلة الإنفتاح والتعاون والتكامل، وكلّما عصفت بنا أفكار التطرف والتعصب والإنغلاق، وكلما أصابنا الإحباط واليأس والشعور بالتقهقر والإنهزام.
فللقدس الشريف رسالة سماوية خالدة تهّم البشرية جمعاء، فهي إذ تدعو لنبذ كلِّ ما يؤول للتشرذم والعداء والإقتتال والحروب المدمّرة وتدعونا أيضا للعمل على الإرتقاء بخدمة الإنسان والإنسانية، والبحث عن المشتركات الإنسانية والروحية والروح الوطنية التي تحيي فينا الآمال لنواصل العمل نحو تحقيق قيم العدلِ والسلامِ والمحبة والمصالحة.
لذلك وإن خَتَمنا زيارتَنا وحجَّنا المقدس وتقدَّسنا بقدسية القدس ولوَّحنا إليها بقلوبنا قبل أيادينا وداعا، فهي لا ولن تودعنا، لماذا؟
لأنها تدعونا لأن نعود إليها كل يوم بقلوبنا قبل أجسادنا لكي تتملئ أرواحُنا من روح قدس الله الذي يطهّر قلوبنا وينزع منّا كل حقد وكل عداء وكل كراهية ويرزع فينا روح المحبة والمسامحة والغفران، ويخلق فينا روحا جديدة عملا بقول المرنم "قلبا نقيا أخلق فيّ يا الله وروحا مستقيما جدد في داخلي، لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني".