دلت النصوص الشرعية على جواز الكذب بين الزوجين، فعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرًا وينمى خيرًا، قالت: ولم أسمعه، أي الرسول صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها). رواه مسلم، حديث رقم:(2065).
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يحل الكذب إلا في ثلاث:يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس) رواه الترمذي، حديث رقم:( 1939) وقال عنه حديث حسن.
ولكن ما حقيقة الكذب المقصود في هذه النصوص؟ هل المقصود صريح الكذب أم التورية؟
اختلف العلماء في ذلك، فذهبت طائفة من العلماء إلى أن الكذب المباح بين الزوجين يحمل على صريح الكذب بمعنى:الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، والأولى الاقتصار على التورية بمعنى: أن يقصد المتكلم في كلامه مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ بالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ومثال ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، احْمِلْنِي، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ» قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ) رواه أبو داود والترمذي وقال عنه: "حديث صحيح غريب". فالنبي صلى الله عليه وسلم استعمل التورية في حديثه مع هذا الرجل، فقصد أنه سيحمله على الإبل، وهو معنىً صحيح، ولكنه غير متبادر إلى الذهن من خلال ظاهر اللفظ، في حين فهم هذا الرجل من ظاهر اللفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحمله على صغير الإبل –ولد الناقة- الذي لا يمكنه حمل الأثقال لصغر سنه، الأمر الذي قاد الرجل للاستغراب من رده صلى الله عليه وسلم.
في حين ذهبت طائفة أخرى من العلماء إلى أن المقصود بالكذب المباح بين الزوجين هو التورية، ولا يجوز الكذب في شيء أصلاً.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في معرض شرحه لحديث أم كلثوم بنت عقبة السابق:"قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة، واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم:(بل فعله كبيرهم) و (إني سقيم) وقوله:(إنها أختي)، وقول منادي يوسف صلى الله عليه وسلم:(أيتها العير إنكم لسارقون) ...وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا. قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية، واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب" انتهى من "شرح النووي على مسلم"(8/426).
ويقول الإمام النووي في موضع آخر:" والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل. شرح النووي على مسلم( 6/181).
ويستفاد من هذا أن العلماء متفقون على مشروعية أن يوري الزوجان في حديثهما على بعضهما، واختلفوا في جواز استعمال الكذب الصريح بين الزوجين ما بين مبيح له ومانع له، ولذا يستحب للزوجين عدم الإقدام على الكذب الصريح إن أمكن استعمال التورية والمعاريض، ولكن لو ترك الزوجان التورية، وأطلقا عبارة الكذب فلا يحرم ذلك..