بصفتي طبيبة قلب، عشت حياتي متمسكة بمبادئ السلام والإنسانية، مؤمنة بقدسية كل نبضة قلب وكل روح تحتاج إلى الرعاية والعيش بحياة كريمة دون استثناء.
كم قضيت ساعات طويلة غارقة في غرفة عناية القلب المركزة وأنا أجاهد بكل ما أستطيع من إمكانيات طبية وعقلية وجسدية لإنعاش روح إلى جسد يحتضر، وفلبي تملؤه سعادة لا توصف عند رؤية المريض يستعيد نشاطه من جديد، مما يجعلني أشعر بقيمة الوجود وعظمة الإنسانية، مدفوعة بإيماني العميق بأن كل إنسان يستحق بذل كل ما في وسعنا من مجهود من أجل إنقاذ حياته .
إنني كطبيبة أقف شاهدة على هشاشة الحياة الإنسانية التي يمكن أن تنتهي بلحظات وأقدر عمق الأثر الذي يمكن أن تتركه أعمال الخير في هذا العالم، وعندما أفكر في الحروب، تلك الآلة الجنونية التي تحصد آلاف الأرواح في لحظة واحدة، أشعر بالأسى العميق.
هل خُلقت الحياة لنقضي على بعضنا البعض؟ هل منحنا الإله هذه النعمة الثمينة - الحياة - لنحولها إلى مسرح للجريمة والعبث؟ يالها من مهزلة أليمة، حيث يتم تبديد أعظم هدية بين البشر في غمضة عين، في جنون الحرب والدمار، وكم هو مؤسف ومحزن أن تضيع هذه الأرواح بهذه البساطة، في معارك لا تجلب إلا الخراب والألم. هذا التناقض الصارخ بين المعجزة التي يعيشها الأطباء في غرف الإنقاذ وبين الدمار الذي تخلفه الحروب، يجعلني أتساءل عن جنون الإنسانية وعن الطريق الذي سلكته. كل نبضة قلب نعيدها تذكرني بأن الحياة أثمن بكثير من أن تُفقد في لحظات الجنون تلك.
أتساءل كيف يمكن لنا أن نقدر الحياة أكثر، أن نحميها ونحافظ عليها، بدلاً من أن نكون أداة للدمار والموت. هذا الصراع بين الحياة والموت، بين الخلق والتدمير، هو ما يجعل مهنتي ليست مجرد عمل، بل رسالة، رسالة تحمل في طياتها تأملات عميقة حول معنى الوجود والإنسانية.
كنت دوماً على يقين بأن الحوار والتفاهم هما الطريق الأمثل لحل كل النزاعات وحلمت بعالم تسوده العدالة والسلام، حيث يحظى كل إنسان بحقه في الحياة والأمن والازدهار، كنت أتمنى أن تُحل القضية الفلسطينية بطريقة سلمية، وتنبثق دولة فلسطينية مستقلة تتوج القدس الشريف عاصمة لها ويعود كل اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم في تجسيد حي لقرارات هيئة الأمم المتحدة. لكن بعد سنوات من المراقبة والشهادة على الأحداث المؤلمة، أصبحت على يقين متزايد بأن الأمور لا تتجه نحو الحل السلمي الذي كنت أحلم به. الجرائم، المحرقة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، التطهير العرقي، وأعمال الإبادة التي تُرتكب بأصحاب الأرض الشرعيين، قتل الأطفال الأبرياء والخدج أيضاً بدم بارد، حرق وهدم مدينة وبيوت بأكملها على سكانها، كل ذلك البطش الجنوني الاأخلاقي قد زعزع معتقداتي. أشعر الآن بأن "ما تم أخذه بالقوة لا يمكن استرداده إلا بالقوة". هذا التحول في موقفي لم يأتِ بسهولة، بل هو نتيجة لمشاهدات مأساة نكبة مريرة ومجازر قاسية يعاني منها شعبنا الفلسطيني على مدار ٧٥ عاماً . لذلك في ظل تلك الظروف الغير عادل، أجد نفسي مشدودة في صراع نفسي معقد ومؤلم. من ناحية، هناك إيماني العميق بقيمة السلام ومن ناحية أخرى، أشعر بواجب لا يمكن التهرب منه نحو الدفاع عن وطني وحماية أرضي وشعبي بكل الوسائل الممكنةً حتى لو كان ذلك يعني حمل السلاح. هذا الصراع الداخلي يمزقني؛ فكيف يمكن لمن تعهدت بإنقاذ الأرواح أن تجد نفسها في موقف قد يتطلب منها الدفاع عن من يقاتل بالبندقية.
كل ليلة، أتقلب في فراشي محاولة التوفيق بين هذين المبدأين المتناقضين. أدرك أن الحرب قاسية وأنها تترك جروحًا لا تشفى في الأجساد والنفوس وعند الأمهات الثكلى، ومع ذلك، أرى أن الدفاع بالمقاومة عن الحق والأرض أمر لا مفر منه في بعض الأحيان. هذا التوتر بين مبادئي الشخصية والواقع المحيط بي يخلق ضغطًا نفسيًا هائلاً . في أعماق قلبي، أحمل أملاً بأن يأتي يوم يمكن فيه حل النزاعات بالحوار بدلاً من الحروب. ولكن حتى ذلك الحين، أشعر بأن عليّ واجبًا تجاه وطني وشعبي، وهو واجب يتطلب مني التفكير في خيارات لم أكن لأتخيلها من قبل، القرار بين حمل السلاح والحفاظ على مبادئ السلام يثقل كاهلي كل يوم. هذا القرار ليس مجرد خيار عملي، بل هو اختبار لكل ما أؤمن به وأقدره.
نعم إنني أدرك تماماً بأن الدفاع عن الوطن والكرامة يمكن أن يتطلب تضحيات جسام، لكن الفكرة تبقى مؤلمة ومتعارضة مع كل ما عملت من أجله كطبيبة للحفاظ على كل حياة بشرية. إنه صراع بين القيم الأساسية التي شكلت حياتي المهنية والأخلاقية، وبين الواقع القاسي الذي يفرض نفسه على بلدي وشعبي من قبل عصابات إجرامية لا ترحم.
أحلم بعالم يمكن فيه للسلام أن يسود من دون الحاجة للتضحية بالأرواح، لكن حتى ذلك الحين، يبقى هذا الصراع النفسي يتملكني، وأجد نفسي مضطرة للتوفيق بين هذه المشاعر المتناقضة، متمنية بأن يسود يومًا السلام والتفاهم على العنف والحرب حتى لا أواجه فيذكل لحظة هذا الصراع الداخلي، محاولة أن أكون صادقة مع نفسي ومع المبادئ التي تربيت عليها والتزمت بها طوال حياتي.
أمضي قدمًا بإصرار وشجاعة، محافظة على التزامي الأخلاقي تجاه المرضى والمحتاجين، متمسكة بالأمل في مستقبل أفضل حيث يمكن تحقيق السلام والعدالة معًا.
هذا الصراع النفسي ليس مجرد تحدي شخصي، بل هو انعكاس للصراع الأكبر الذي يواجهه شعبي في هذا الزمن اللعين. أعلم أنني لست وحدي في هذا النضال، وهذا يعطيني القوة للاستمرار والأمل في مستقبل يعمه السلام والعدالة للجميع.
أشعر بسعادة غامرة عندما أرى شعوب العالم تتحد وتخرج في مسيرات يومية دعمًا للقضية الفلسطينية مطالبة بوقف المجازر في غزة ضد شعبنا والأطفال الأبرياء. هذه الحركة العالمية تعيد إليّ الأمل بأن العدالة قد تسود يومًا ما. كل هتاف في الشوارع وكل لافتة تُرفع تعكس التزامًا عالميًا بالإنسانية وتشكل دعمًا معنويًا لا يُقدر بثمن للقضية، هذه المسيرات تُعطي صوتًا للأبرياء الذين لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم، وتعكس الرغبة العالمية في إنهاء العنف والظلم. إنها تذكرني بأن النضال من أجل الحرية والعدالة ليس نضالًا وحيدًا.
إن هذا التضامن العالمي، يقوي إيماني بقضيتي العادلة. إن طريق النضال والتضحيات قد يكون طويلًا وشاقًا، لكن الحرية والعدالة ستنتصران في النهاية. لذلك سأواصل نضالي بإصرار أكثر من أي وقت مضى ، ليس فقط كطبيبة تسعى لإنقاذ الأرواح، بل كمدافعة عن وطني وعن العدالة والكرامة الإنسانية بكل الوسائل الممكنة، واثقةً بأن كل صوت يرفع في سبيل العدالة وكل يد تمتد للمساعدة، تقربنا خطوة نحو عالم أفضل.
أعاهد نفسي بأنني لن أتوانى ولن أتراجع، سأبقى دوماً صوتاً مدافعاً عن حق شعبي، ويداً تعمل من أجل السلام، أحمل مشعل الحرية والإصرار ، مدافعة عن كل أبطالنا الشرفاء الذين يضحون بحياتهم من أجل تحرير وطننا الأبدي فلسطين، حاملين أرواحهم على أكتافهم، وبأياديهم غصن زيتون وبندقية.
طوبى لكل الأبطال والشهداء ولكل احرار العالم الشرفاء.