وقفت سيدة طاعنة في السن مع ابنتها الشابة او لعلها كانت قريبتها فقد تشابهت ملامح الوجه ولون الدم .. وقفتا أمام إحدى أكبر المجمعات التجارية في مدينة سدني التي كان السواد الأعظم من سكان المنطقة من أبناء الجاليات الاسلامية والعربية وقد حملتا صورة واحدة من واقع ما يجري في غزة ومعهما صندوق صغيرة تجمعان فيه التبرعات لإنقاذ غزة من مجاعة ما مرت عبر العصور فوق ذلك الدمار الكلي فقد عضهم الجوع وغشت أبصارهم بالحيرة وسكنتهم أحزان الصباح والمساء. كان في الصورة رقم حساب بنكي خاص بالتبرعات حسب الأصول ومعهما آلة شبكة بنكية صغيرة لمن يريد التبرع بواسط بطاقات الائتمان لأن ابناء الغرب ليس في جيوبهم إلا بطاقات البنوك وبطاقات الانتساب للنوادي المختلفة.
لقد رأيت جهدهن المجبول بدموع القهر وأنا أرقب الحدث بكل شغف لمعرفة ردود فعل أبناء الجاليات وأنا أعاين حزنا عميقا في عيونهما ..ولعلهما قد عاشتا مرارة إحدى الحروب وويلاتها يوما! في ذلك اليوم حيث رمضاء الصيف الاسترالي الذي تجاوزت درجة حرارته الأربعين ...وقفتا طلبا لدعم غزة والتبرع لأطفال غزة ، لقد حاولتا الحديث للناس ورفع الصورة باتجاهات مختلفة لترى الناس أبناء جلدتهم في غزة كيف يذبحون وتهدم بيوتهم فوق رؤسهم وقد غابت ضمائر الدنيا عنهم. مرت أمواج من الناس ولم يتوقف أحد عندهما ... مر الشباب الذاهبون للأندية لبناء اجسامهم ولم يأبهوا . وقف بعض المسنين وأخرجوا من جيوبهم دريهمات لعلها كانت طمعا في حسن الختام !
أنا امضيت من رحلة العمر ردحا كان جله في بلاد الغرب، لكن ما نعيشه هذه الأيآم من تجدد نكبات فلسطين وغزة في مرمى النار يجعلنا محاصرين بمأزق اخلاقي وإنساني كيف لنا ان نتركهم وهل يطيب لنا طعام وهم جوعى وهل ننام وهم في العراء والخيام وتحت المطر … في كل أسبوع تقام مظاهرات في الغرب اجمالا وهنا في ( سدني استراليا )يأتي لها مجموعات وفئات ويرددون نفس الكلام وعدة ساعات وينفض التجمع ويذهب الناس من حيث أتوا فكم واحد منهم تبرع لهذه الصناديق فاغلب الناس تشتري البيوت بالدين ويذهب أكثر دخلهم لدفع الفوائد لهذه البيوت لمدة ثلاثين سنة... وما تبقى يصبح في خطة التقشف والتقتير في كل شيء حتى التبرع!
أتردد في الكتابة وانتقاء الأسلوب فيها مرات ومرات فالغصة في الجوف حائرة ساكنة، لأن ضياع البوصلة باتجاه فلسطين يدمى القلب فما هكذا تورد الإبل فالمطلوب منا العطاء وليس المتاجرة بالشعارات والمطلوب منا بذل الجهد وليس التغاضي وكان الأمر لا يعنينا ...لأن دور الجاليات مهم ومؤثر فأبناء هؤلاء الجاليات نشطاء فاعلون في الأحزاب الحاكمة في هذا الزمن وعلى كل المستويات وأبناء الجاليات المسلمة يشكلون الأغلبية من المجتمعات المهاجرة وتأثيرهم كبير ولابد لنا موقف من الانتخابات التي تأتي ولابد أن تسيد فاتورة المواقف، ولابد أن نهيل من المساعدات المختلفة وحث الحكومات لذلك أكثر وليس مهما الاحتفالات ورفع الشعارات.
نحن الآن في زمن الرقمنة وشبكات الإعلام والتواصل الاجتماعي والمنابر الحرة ولم يعد بإمكان أحد إخفاء شيء على اي حدث مطلقا والنتيجة ان العالم بدأ يسمع اكثر بقضية فلسطين وادرك طلاب الجامعات في العالم حقيقة ذلك. إن التفاعل الهادف مطلوب وهو رافد لصمود أهلنا في غزة كجزء من فلسطين ، فقد ذهبت الأيام التي استباح الغرباء فيها أرضنا وقتلوا ودمروا دون ان يعلم العالم شيئا عنهم...ثم إذا ما سيطروا على أرض فلسطين عكفوا على خطط الـتشريد والإبعاد من البداية والقتل البارد بمذابح معروفة يتباهى بها كهول الغرباء حديثا بما يسردون في مقابلاتهم التلفزيونية ومذكراتهم كيف قتلوا في دير ياسين!! وكم ارتكبوا من موبقات و اغتصابات وقتل عشوائي للأسر وللأطفال والرجال... غيّب بعضهم بعضا حتى أبادوا دير ياسين وتركوا البصمات الأليمة في الجرح الفلسطيني وليس الخبر كالعيان. قبل عشرات السنين يوم نفذ المحرمون مذابحهم لم تكن شبكات التواصل والتقنيّات الرقمية يتداولها الناس في العالم ولم تكن وسائل التواصل تبث بشكل مباشر من اي بقعة في كوكب الأرض لتبصر الحقيقة بكل تفاصيلها.
الأحداث القائمة في غزة تطوف صورها إلى كل بيت في العالم وأغلب البشر غاضبون وليست ما يدور في غزة قصصا تروى بل حقائق تروي نفسها و لا مجال للشك والتشكيك فيها . واضح انحياز الحكومات في الغرب للغرباء الجبناء لمصالح وغايات معروفة ومجهولة ودون خجل من شعوبها ودون مبررات منطقية، لكن انحازت الشعوب في العالم لغزة وعلت أصوات فلسطين وعلت صورها فأكثر العالم الان مساندين حقوق غزة في الحرية والحياة وعموم فلسطين لان من حق اهلها الدفاع عن أنفسهم وحريتهم وأرضهم وعدم حصارهم وتشريدهم في الصحارى فلا تتركوا الحصان يموت وحيدا لانهم اظهروا المروءة المفقودة في امة ضائعة وأعلوا رايات للبطولة والتضحيات لم يسبق للعالم كله ان شهد ذلك لا منهم .. فلا تتركوا غزة وحدها …يتبع