هنا في استراليا وعلى سبيل المصادفة كنت ألتقي أسرة كريمة من فلسطين الحبيبة ترجع إلى عائلة الغنايم ، وكدت لا أصدق حدوث هذا ، فأرض المهجر يجتمع إليها أخلاط الناس وتعرف بها أنماطاً من الأعراف والديانات والقيم .. غير أن هذا اللقاء كان فارقا عميق الأثر في نفسي، فقد جمعتني بهذه العائلة الكريمة وشائج من القربى وصلة رحم بعيدة قد تبدو بعيدة لكنها دماء جرت في أوردة أجدادي منذ مئة عام أو تزيد! .
إن جدتي لوالدي رحمهما الله هي زهرة محمود الشباطات التى توفيت في ريعان شبابها نهاية الأربعينات خلال أعوام نكبة فلسطين، أما والدتها فهي جدة والدي المرحومة تفاحة عباس القطامين أم الرجال والتي عرفت بفروسيتها حيث كانت تركب الخيل وتحمل السيف والبندقية ..أما جدة جدتي فهي المرحومة ذهبيه الغنايم اصل كل الحكاية المروية وألق الماضي البعيد بكل ما فيه من شوق وحنين فهي من خير نساء قرية كفر مالك قرب سلواد شمال القدس في فلسطين والتي تزوجت من جدّنا الشيخ عباس القطامين رحمهم الله جميعا أيام الدولة العثمانية قبيل نشوء الدولة الأردنية ووعد بلفور ونشوء دولة الغرباء والاحتلال وأخالها جاءت إلى شرق النهر جنوب الأردن في الطفيلة محفوفة بالبنادق والسيوف وعلى هودجها صندوق الكحل والذهب والرضى كله. إنها قصة من قصص الزواج والمصاهرة هذه تحمل أكثر من دلالة وبرهان على أن الأردن وفلسطين أشقاء دمهم واحد لا بل القلب يخفق في جسد واحد ومصيرهم واحد ويتشابهون في المروءة والعطاء بل وبكل شيء يقال ويفعل .
لقد أنجبت الجدة المرحومة ذهبية الغنايم قبل عقود مضت الرجال وزين النساء وتمددت العائلات والعشائر وأصبح من ذريتها مئات من الصفوة والأكثر أدباً وعلماً وقادة في كل ميادين الحياة. كانت رحمها الله موصوفة بحسن الطلعة وبهاء الوجه ورجاحة العقل وثبات الرأى... فسلام عليك وعلى الراحلين من امام النهر وخلف النهر وسلام على روحك أيتها الجدة النبيلة وسلام على كفر مالك في فلسطين أخوالنا الكبار وأبطال ماضي الزمان وحاضره.
لم تكن فلسطين إلا لأهلها ، مسكوكة على جذوع الزيتون وصخر الأحراش ... في رائحة الزعتر البري وكوفيات الرجال بألوانها الذين عرفوا الأرض كما عرفوا أبناءهم وأنفسهم …وستبقى مهما طال الزمان عربية تعصر زيتها وتربي خيلها وتحض على المروءات . فلسطين يا جميلة الجميلات وزهرة البوادي المتفردة أهلكهم ممن حملوا ألوية الصبر ورايات النصر والصمود وأشرعوا أبواباً للتضحيات وسنوا له منهاجا ومنسكا. أهلها الذي بقوا وثبتوا فكأنما عظامهم خناجر وكأنما دمهم زيت مشاعل يضيء طريق الأحرار في كل مكان في عالم لم يعرف البطولة إلا من فلسطين.
أوصلتني دروب الغربة بعيدًا وكنت أدقق كثيرًا مما يكتب عن فلسطين منذ زمن بعيد، أما هذه الايام فقد صرت أتابع أخبار الدمار والفرح والاستشهاد بشغف كبير. وأشعر بالتقصير الكبير مهما قدمت في السر والعلن. وأشعر بألم عميق واستياء عند سماعي وتصفحي لبعض المغردين المهووسيين بالنيل من فلسطين والمقاومين وخصوصا على منصة اكس/ تويتر وتعليقاتهم المخزية والمعيبة وبلغة عربية واكاد اجزم بأنهم من فرق الغرباء الذين يقطرون السم في ريق المتعبين! إن وجد الذكريات يمور في النفس بتذكر جدتنا الكبرى وملامحها الجميلة وأستذكر كل رماح فلسطين ورجالها وتغريبة الوطن الحزين مذ تُركوا وحدهم في الاربعينات ولا احد يعلم عنه شيئا ...
إن نذالة الكلمات ووضاعتها لا تخرج إلا من وضيع لئيم متخلف.. لا يعرف التاريخ ولا أبعاد المعراج إلى السماء وإن اسم فلسطين وأهلها فوق السحب وأعالي الجبال وإن نصرهم على الله عز وجل لأنه اختارهم واجتباهم للبطولة والشهادة نيابة عن أمة تعيش وهدة ضياعها وذلها وهوانها. لقد أفهمني والدي رحمه الله خلال حديثه عن مكوثه في القدس يوم كان جنديا يافعاً في زمن الستينيات زمن السلاح والبندقية والكرامة العربية التي خاضها جنود الأردن وحدهم... أن فلسطين هي القبلة والمهجة التي تديم ضخ الدماء في أجسامنا وأن ارضها اغتصبت عنوة وانتزعت بقوة السلاح من قبل عصابة مجرمة ربيبة الغرب الظالم .
كان رحمه الله يبدي النصح العميق لنا في كل مراحل الحياة بصمت مقلا في الكلام. وقد قال لي عندما اردت السفر والغربة في بلاد المهجر أول مرة: يبوي.... عليك بالقرب من أهل فلسطين فهم أهل خلق ودين وعلم وفيهم من الوفاء ما فيهم. كانت وصيته ًكسفر جعلني انبش في أوراق التاريخ وأزقة القرى وما قالوا وما كتبوا ووجدت آثارهم هنا وهناك.
لقد مر بصري على ما جاء في السيرة النبوية حيث قال النبي الكريم عليه افضل الصلاة والتسليم بشأن فاطمة الزهراء ابنته بأنها بضعة منه أي أنها جزء منه من أحبها أحبه ومن بغضها أبغضه وفلسطين بالنسبه لنا بضعة منا وقلب نابض فينا لأننا منها وهي منها ولو وقف العالم الظالم كله ضدها فهي القبلة والقبلة على الجبين …يتبع لاحقًا.