ڪــل عام ونحـن على هدى النبي الحبيب سائرون وبسنتــه وأخلاقـه مُهتــدون وإلى لقائه وصحبتــه مشتاقون..صلوا عليـه وسلموا تسليما ﷺ..
آمنة بنت وهب... "زهرة قريش":
أفضل فتيات قريش نسبًا ، كانت فتاة ذات مكانة عالية بين جميع فتيات قريش اللواتي بِسِنِّها، ولا يوجد شاب إلا ويتمنى أن تكون من نصيبه.. وما من امرأة رأتها إلا وحدثت عنها وعن جمالها وأدبها ورزانة عقلها وفطنتها مما جعلها محط أنظار الكبير والصغير وتقدم لخطبتها العشرات من خيرة شباب مكة، لكن والدها كان يرفض بإستمرار لرغبته برجل ذي مواصفات معينة..فإبنته من أفضل فتيات مكة سمعةً، ولا يريد لها إلا افضل شبان مكة سمعة وعلى الرغم من أن خيرة شباب مكة تقدموا لها، لكن لم يكن عبد الله بن عبدالمطلب" من الذين تقدموا لخطبتها برغم ما له من الرفعة والسمعة والشرف، فقد منعه من التقدم إلى "آمنة" نذر أبيه بنحر أحد بنيه لله عند الكعبةإذ إن عبدالمطلب حين اشتغل بحفر البئر، لم يكن له من الولد سوى ابنه "الحارث" فأخذت قريش تعيب عليه ذلك، فنذر يومها إذا ولد له عشرة من الأبناء سوف ينحر أحدهم عند الكعبة فأنعم الله عليه بعشرة أولاد أصغرهم "عبدالله" وهو الذى استقر عليه السهم ليكون هو الذبيح
لكن عبدالمطلب لم يستطع الوفاء بنذره لأن عبدالله أحب أولاده إليه وأكثرهم معزة في قلبه، فذبح مائة من الإبل ليفدى ابنه من الذبح، وبعد أن انتهت قصة الذبح أخذ عبدالمطلب ابنه عبدالله إلى وهب ليخطب آمنة لإبنه فغمر الفرح نفس "آمنة"..وكانت الفتيات يحسدن السيدة آمنة لأن عبدالله اشتهر بالوسامة، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحرًا، وكان الشباب يحسدن عبدالله لأن آمنة من خيرة فتيات مكة كما ذكرنا، ووفق الله خير شبان مكة مع خير فتياتها وجمع بينهما لتبدأ قصتهم العظيمة والقصيرة..
مكث عبدالله عند عروسته أيامًا قليلة لأنه كان عليه أن يلحق بالقافلة التجارية المسافرة إلى الشام، ومرت الأيام وشعرت خلالها "آمنة" ببوادر الحمل، وكان شعورًا خفيفًا لطيفًا ولم تشعر فيه بأية مشقة أو ألم حتى وضعته، لكنها في ليلة زفافها رآت رؤيا عظيمة وغريبة أفزعتها واثارت دهشتها..رأت آمنة شعاعاً من النور خرج منها فأضاء الدنيا من حولها حتى تراءت لها قصور بصرى في الشام وسمعت صوتًا يقول لها: يا آمنة لقد حملتِ بسيد هذه الأمة، ظل هذا الحلم في مخيلتها ولم تنسه وكانت تحدث اقرب الناس لها عنه بإستمرار حتى مضت شهور وجاء الخبر القاسي حين علمت آمنة من أبيها بوفاة زوجها وحبيبها عبدالله أثر تعرضه لمرض اثناء رحلته فتوفي بيثرب ودفن فيها وبكت عليه آمنة و لكنها لم تبك عليه وحدها، بل بكت عليه مكة كلها، ومع ذلك صمدت آمنة حتى تحافظ على سلامة جنينها، وبالفعل جاء اليوم الموعود ووضعت وليدها...وأنزل الله عز وجل الطمأنينة والسكينة في نفس "آمنة" وأخذت تفكر في الجنين الذي وهبها الله عز وجل والذي وجدت فيه مواساة لها عن وفاة زوجها الحبيب، ووجدت فيه من يخفف أحزانها وجاءتها آلام المخاض، فكانت وحيدة ليس معها أحد، ولكنها شعرت بنور عظيم يغمرها من كل جانب.. فولدت أشرف الخلق محمد ﷺ...
بعد مضي ست سنوات من عمره الشريف رأت أمنة انه من باب الوفاء لزوجها ان تذهب لزيارة قبره مع ابنها محمد فشدت الرحال وانطلقت بإتجاه يثرب مع صغيرها وسيدة تدعى ام ايمن..وصلت آمنة بنت وهب مع إبنها الى قبر زوجها عبدالله فوقف ابنها الصغير ونظر إلى قبر أبيه بحزن وتخيلات تعصف مخيلته عن شكله ومواقفه ومدى حاجته له فهو ولد يتيمًا وعاش طفولته بدون أب، مكثوا قليلًا عند قبر عبدالله ثم همّوا بالرجوع لمكة بعد أن ادت واجب الزيارة...قطعت آمنة مع ابنها وأم ايمن ١٥٠ كيلو حتى وصلوا للأبواء فشعرت آمنه بتعب شديد ولكنها صبرت وكانت متمسكه بيد أبنها، ومضت تصارع آلامها ونظراتها لا تفارق أبنها حتى تشبع روحها منه فقد شعرت أن هذا المرض لا شفاء منه وهي مجرد لحظات وستذهب روحها لخالقها فأرادت أشباع نظرها بإبنها قبل الرحيل
استمر التعب بمحاصرة آمنة وهي صامدة حتى تمكن منها فسقطت على الأرض وإذا بأم أيمن ترفعها والرسول ينظر لها بخوف والدموع بعينيه البريئة تقول أم أيمن : فما أن رفعتها إلا وهي ترفع كفيها وتضم محمدًا، وتقول له: { يابني كل جديد بال، وكل آت قريب، وكل حي ميت }..فتموت آمنة والنبي ينظر لها وهي جثه والخوف والوحدة والحزن العظيم يجتاحه من كل مكان، أم أيمن رأت حالته وحزنه فأخذت تمسح على رأسه لتصبره فقالت له عاوني يامحمد لنحفر قبر أمك، ويالهُ من موقف طفل لم يتجاوز السابعة من عمره ينظر لقبر أبيه بالأمس وباليوم التالي يحفر قبر أمه..فأخذ نبينا يحفر معها وهو يبکی... تقول أم أيمن كنت أدير وجهه عن أمه من شدة البكاء، فجلسنا أنا ومحمد ثم دفناها في ذلك المكان تقول أم أيمن : أمسكته من يده لنذهب وهو يقول:أمي ويردد أمي أمي ويبكي وينظر وراءه على أمل أن تلحقهم.. تقول أم ايمن فمشينا من الأبواء إلى أن وصلنا مكه فتوجهت إلى بيت عبد المطلب فطرقت الباب فإذا عبد المطلب يفتح لنا الباب ثم قال للنبي: أين أمك، فبكى النبي وهو يردد ماتت أمي ماتت فضمه عبد المطلب وقال له : أنت ابني أنت ابني..
وبعد سنين طويلة في طريقه لفتح مكه تذكر تلك الاحداث فقال: هذا قبر أمي فوقف ﷺ على قبرها فبكى والله ما بقي أحد وقف معه إلا أبكاه وذات مرة زار قبرها وكان معه، ألفي فارس مقنع فقال لهم: "قفوا" أي انتظروا ، مارأيت رسول الله أشد بكاءً من ذلك اليوم.