هذه القصة حدثت قبل (٢٣) سنة عندما كنت طالباً جامعياً في السنة الرابعة ، حيث انتقلت من غرفتي إلى بيت آخر مع زملاء بسبب تحسن الوضع المعيشي و جاورت أحد الجيران في العقد الخمسين من عمره ، الذي أذهلني بكرمه علينا وعلى الآخرين رغم فقره الشديد ،حيث كان لديه بقالة صغيرة جداً يبيع فيها الشاي وسندويشات الفلافل واللبنة والزعتر وغبرها التي يعملها في البيت ، حيث كان يعيل من خلالها أسرته الكبيرة من الإناث بعضهن يدرسن في الجامعات و كنت أشاهده وأسرته وبناته في حالة يرثى لها من حيث الملابس العتيقة و البيت القديم الذي يسكنوه، حيث كان يضع على سطحه الزفتة في الشتاء؛ كونه متهالكاً وقديماً يسرب الماء من سطحه ونوافذه القديمة ، حيث لم تكن نوافذه المنيوم وكان يستخدم صوبة الحطب والبابور (البريموس )و غاز صغير يقوم بتعبئته أمام بيته من أسطوانة الغاز، وكان كذلك يملأ الغاز الخاص بنا ويمتنع عن أخذ المصاري قائلاً :" أنتم طلاب علم وظروفكم صعبة " .
كما كان يأتي لنا شبه يومي بالسندويشات و يمتنع عن أخذ الثمن ، علاوة على تقديمه الطعام لنا في شهر رمضان ، حيث كان يأتي لنا على مدار شهر رمضان بطبخة المقلوبة والكبسة والمحاشي وغيرها بدقائق حتى لا نرفض طعامه وكنا نقول له:" سامحك الله يا حج، ظروفكم صعبة ليش الغلبة نحن في إحراج بسبب ظروفكم الصعبة"!!! ، فيرد بيقينٍ ثابت : " ربنا برزق وبعطي يا أبنائي والكريم حبيب الله " . وقتها كان الزملاء صغاراً في السن و ليس لديهم خبرة في الحياةِ ؛ لذلك لم نقدر كرمه وعمله الطيب إلا بعد أن أصبح لدينا زوجات وأبناء .
و كنت في الأشهر الاخيرة قبل تخرجي أشاهده و هو عائد إلى بيته يمر على بيت صغير و معه الأكياس و يضعها على باب عجوز و يغادر ومن ثم تأتي زوجته إلى ذلك البيت ومعها الطعام .
كنت أظن في البداية أنها والدته لاهتمام الرجل و زوجته وبناته بها ، علمت أن العجوز ليس لها أقارب في نفس المنطقة ولم تنجب الأولاد و زوجها توفاه الله و كانت تعاني من المرض وليست من أقارب ذلك الرجل ( مقطوعة من شجر) كما يقول المثل ، فقد كان الرجل بعض الأحيان يدق الباب علينا في ساعات متأخرة من الليل، لكي نساعده في حمل العجوز في السيارة للذهاب بها إلى المستشفى ، و كان في كل مرة يعتذر لنا عن ازعاجنا، و عندما أنهي مهمتي معه أعود إلى البيت لأرقد في فراشي، في حين يذهب هو و زوجته إلى المستشفى لمعالجة العجوز و الاطمئنان على صحتها ، وقتها كنت أقول في نفسي :" هنيئاً لهذا الرجل وزوجته بعمل الخير رغم فقره تجاه هذه المسكينة .
.
ولاحقا رزق ذلك الرجل الفقير الكريم من خلال بناته ، حيث تخرجت ابنته البكر من الجامعة و تزوجت من أحد الأغنياء وصاحب شركة في دولة عربية ، وبناته الأخريات كذلك من أصحاب أموال و عقارات، حيث أصبح الرجل الفقير من الميسورين بعدما أغدقه صهره زوج البنت الكبيرة بالمال والأعطيات ، و ساهم هو و زوجته في تقديم معونات مالية ومادية في شهر رمضان للفقراء من أموال بناته اللواتي عملن في تلك الفترة بتحويل المال لوالديهما قبيل وفاتهما قبل( ١٠) سنوات في مكة المكرمة في حادث سير أثناء تأدية مناسك الحج .