حضرتُ عرساً لجاري من خارج المحافظة قبل (٢٣) سنة عندما كنت طالباً في السنة الرابعة في الجامعة ، حيث كانوا جيراناً لنا للبيت الذي أستأجرته مع زملائي في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية بسبب تحسن أحوالنا المعيشية و كانوا يغدقوننا بالطعام ويتفقدونا بالمال و غيره ، وللأسف الشديد حدث خطأ جسيم في طبخ وليمة المنسف على غير المتعارف عليه بإستعجال أشقاء وأبناء عم العريس بوضع اللبن البارد على اللحم مباشرة قبل غليه مع تأخير وضعه على النار؛ كونه لحم جديان صغير ، مما ترتب عليه قساوة في اللحم وعدم نضوجه ، وبدأت الوفود بالتوافد على بيت الشعر الذي أقيم لأستقبال الضيوف ، وحدث شجار كلامي بين الأقارب بالقرب من قدور اللحم كاد أن يصل إلى حد الاشتباك بالأيدي!!! فتدخلت لإنهاء الخلاف، وصرخت بهم قائلاً :" وحدوا الله يا ناس الشغلة مش مستاهلة ، اذهبوا واستقبلوا الضيوف ولا تتحدثوا عن موضوع الطعام أمام الناس ، تكتموا على الموضوع، سوف أنجح بإذن الله في حل المشكلة اذهبوا رجاء " !!. فلم شاهدوا صراخي عليهم وعرفوا أنني من محافظة أخرى تقبلوا الأمر سمعاً وطاعةً وذهبوا لاستقبال الضيوف .
طلبت منهم على عجل احضار تمر وأخراج نواة، حيث وضعته في قدور اللحم بواقع (٢٠) حبة لكل قدر ، كما وضعت (٣) ملاعق كربون في كل قدر ، كما قمت بتغطية القدور بالقصدير لتعجيل استواء اللحم ، و طلبت من الشيخ أخو العريس يتحدث للناس المجتمعة في بيوت الشعر عن الزواج وأحكامه كما طلبت من أهل العريس توزيع الحلوى على الضيوف لتأخير الغداء مغايراً للعادات والتقاليد المتعارف عليها ، بحجة أن هنالك ضيوف قادمون من محافظة أخرى وتعطل بهم الباص و فيهم شيوخ ومخاتير .
كما طلبت من (٣) نساء كبيرات في السن بالجلوس بالقرب من القدور والقيام بالتسبيح والإستغفار والصلاة على النبي حتى يبارك الله في وليمة الغداء ، وقتها كان الختيار جد العريس يصيح ويصرخ ويولول في وجهي قائلاً :" شو إلي بتعمله، فضحتنا يا شب!!! ، ما هذا إلي بتعمله!! لا تتدخل ورجينا عرض اكتافك خلص انفضحنا!!!! " . فصرخت في وجهه قائلاً : إذا ما بتسكت وبتصمت لأخليهم يسكروا عليك الباب روح اذهب وأجلس مع ضيوفك أنا بدي أعالج مشكلتكم وأنا بتحمل النتائج إذا ما نضج اللحم "، فذهب الختيار للضيوف وهو يتمتم قائلاً : هذه أخرتها العيال بتحكموا فينا !! فقلت له : أصمت وأذهب. ما أفعله هو ما تعلمته من والدتي عندما كنا نعيش الفقر وتطبخ لحم النعجة الهرمة الكبيرة بهذه الطريقة لكي نأكل منها .
وما هي ساعة حتى فتحنا قدور اللحم وكم كانت سعادتي غامرة بنضوج اللحم لدرجة كبيرة ، بعدها طلبت منهم تجهيز المناسف ، وطلبت من الأقارب الذين تحفظنا عليهم في بيت آخر بأن يدخلوا بيت الشعر لإيهام الضيوف أنهم وصلوا بعدما تعطل بهم الباص و لا اخفيكم سراً أن الجميع استمتع بلذة المنسف كونه جاء على جوع وفترة انتظار ، و شاهدت الإبتسامة على محيا الختيار والأبناء الذين أنبهروا من العمل الذي قمت به ، حيث انتهى العرس في جو من البهجة والسرور .
وقتها غادرت إلى بيتي على عجل ولم أتناول طعام الغداء؛ لأنني كنت في صدمة وتوتر خشية أن تفشل الخطة في إصلاح المشكلة ، وفي المساء جاء على سكني والد العريس وأشقاؤه وشكروني على ما فعلت من عمل ،حيث أدخلت البهجة لقلوبهم وأعتذروا نيابة عن الختيار جدهم عما صدر منه من إساءات تجاهي، وسألوني عن الجرأة التي تمتعت بها في إصلاح المشكلة ، فقلت لهم :" لقد غامرت بهذه الطريقة على غير معرفة أكيدة حتى لا يتسبب عدم نضوج الوليمة في حدوث خلافات بين الأقارب ومن باب رد الجميل لكم لأنكم تتفقدوننا بالطعام والمال لأننا طلبة فقراء جيران لكم ، واقتداءً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود.وكذلك لا فائدة من جعجعة عند وقوع المشكلة بل يجب أن يفعل العقل والمشورة حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه .