في ماعين… حيث تصحو الشمس على جبالها وتغفو على أوديتها، وحيث الطيب يسكن البيوت كما يسكن النسيم بين الحقول، وُلدت الحكاية… حكاية رجل صار أسطورة.
هو علي راشد أبو وندي، أمير العوازم، وفارس المكارم، ونتحدث عن ابنه (( أبو ستة )) اخو شنوة ..
لم يكن رجلاً عابراً، بل كان صوت العدالة في زمنٍ تتنازع فيه الأهواء، وكان وجه الرحمة حين يشتد القسوة. كان يمشي بين الناس فيرى في عيونهم تقديراً وهيبةً لا يمنحان إلا للكبار، ويجلس في مجالس القضاء ⚖️ فينصت الجميع كأن على رؤوسهم الطير.
دخل إليه خصمان يختلفان على أرضٍ ورثاها عن الآباء. جلس أبو ستة على بساطه ، والسكينة تملأ المكان. أنصت طويلاً، لم يقاطع، لم يُظهر ميلاً. ثم أمسك عصاه وقال:
"الأرض لا يملكها من يرفع صوته، بل من يملك برهانه. والعدل عندي لا يعرف صديقاً ولا قريباً… الحق حق ولو على نفسي."
خرج الخصمان متصافحين، والناس تهتف: "هذا ميزان الله في أرض أبو ستة
ذات مساءٍ ممطر، حلّت على مضارب العوازم قافلة من الضيوف. ما إن لمح أبو ستة الخيل تقترب حتى نادى عليان وقال:
"اذبحوا من النياق ما يكفي ، فهؤلاء ضيوفنا الليلة، ولا يليق بالكرم أن يُقاس بالعدد."
وفي ليلةٍ واحدة، صارت ماعين تضج بالفرح، والضحك يختلط برائحة القهوة ، حتى قال شاعرهم: ((("من دار أبو وندي مرّيت،
لقيت الكرم يمطر مثل الغيم،
لا يفرق بين ضيفٍ بعيدٍ و قريبٍ،
كلهم عنده ملوك. .. )))
ولم يكن أبو ستة وحيداً في مسيرته، بل كان إلى جانبه شقيقه يُشبه السيف في مضاء عزيمته، إنه عليان اخو شنوة . كان إذا غاب أبو ستة عن مجلس، جلس عليان فيه، فلا يُهان أحد ولا يُظلم إنسان. فقال فيه أبو ستة اخو شنوة
((( "عليان لا يُضام ولا يُهان،
ويُكرم كرم الملوك في حضرتي،
هو العزّ إن خان العزّ أهله،
وهو السيف إن غابت السيوف.")))
وفي إحدى الليالي، وقد اجتمع الرجال حوله، أنشد أبو ستة بصوتٍ يجلجل:
((("يا راكبٍ من فوق صفراً مهيدب
تلفي بيوتٍ الكرم نزايل
دارٍ بها أبو وندي شيخٍ منيعٍ
يشهد له العربان شايب جيل")))
فارتفعت الهتافات، فخراً، كأنما الشعر صار سيفاً آخر في يده.
رحل أبو ستة أبو وندي بجسده، لكن بقيت ذكراه خالدة في قلوب الناس. كل قضاءٍ عادلٍ يُذكر باسمه، وكل مائدة كرمٍ يُستحضر فيها حضوره، وكل مجلس هيبةٍ يتردد فيه صدى صوته. هو أسطورة ماعين، ورمز العوازم، ورجلٌ علّمنا أن الشجاعة لا تكتمل إلا بالرحمة، وأن العدل لا يعيش إلا إذا حمله فارسٌ صادق.