لم تكن الأسرة في المجتمع العربي القديم محض إطار اجتماعي يجمع الأفراد تحت سقف واحد بل كانت بنية روحية وأخلاقية تتجسّد فيها القيم العليا للانتماء والوفاء وصلة الرحم.
فالعربيّ لم يكن يرى في أسرته مجرد أهلٍ ومعارف بل امتدادًا لذاته وذاكرته ونَسَبه يعتزّ بها كما يعتزّ بأرضه ولسانه.
وفي قلب هذه المنظومة برز العمّ والخال رمزين راسخين للصلة والهوية: العمّ ظلّ الأب وراية النسب، والخال ظلّ الأم وصوت الرحِم.
العمّ: عنوان النسب وحارس الأصل
في الموروث العربي، يحتلّ العمّ مكانة تكاد توازي مكانة الأب. فهو امتداد البيت ووارث الاسم، والضامن لاستمرار العزوة وحفظ المروءة.
وقد توارث العرب القول: "العمّ والدٌ ولو لم يلد" لما يمثّله من صلة مباشرة بالجذر الذي تنحدر منه الأسرة.
وكان توقير العمّ علامة من علامات الأصالة ودليلًا على الوعي العميق بمعنى النسب الذي شكّل أحد أعمدة الشخصية العربية: الاعتزاز بالأصل دون تعالٍ والوفاء للسلالة دون انغلاق.
وفي المنظور الإسلامي جاءت الشريعة فوثّقت هذا المعنى، إذ قال النبي ﷺ: "العمّ صنو الأب" تأكيدًا لوحدة الدم وتكافؤ الحقوق في الاحترام والبرّ
فكان العمّ في المنظور العربي والإسلامي رمزًا للثبات والجذر والاستمرار لا يُكرم لشخصه فحسب بل لما يمثّله من امتدادٍ للآباء والأنساب.
أم عن الخال: ظلّ الأم وحنان الرحم
فقد خصّه الموروث العربي والإسلامي بمكانةٍ لا تقلّ رفعة فهو عنوان الرحِم من جهة الأم، ورمز اللين والحنان والودّ
قال ﷺ: "الخال وارث من لا وارث له" فجعل له منزلة شرعية تُبرز عمق العلاقة بينه وبين أبناء أخته.
وفي التراث العربي القديم كان يُقال: "اختر لنطفك الأخوال فإنّ العِرق دسّاس وهي إشارة إلى اعتراف العرب بعمق أثر الخال في تكوين النسل خُلقًا ونفسًا ومعدنًا.
فالخال في الوجدان العربي ليس مجرد قريبٍ بالأم بل وجهها الباقي بين الرجال وحامل إرثها في اللين والعطف والرعاية. ومن هنا ارتبط الخال بمعاني الرحمة والتوازن فجمعت بين العاطفة والنسب بين دم الأمّ وكرم الرجل.
فإذا تأملنا في حضور العمّ والخال في الثقافة العربية وجدنا أن الأمر يتجاوز حدود القرابة إلى مفهوم أعمق هو وحدة الجماعة وصيانة الرحم.
فالعرب قبل الإسلام أقاموا حياتهم على العصبية بمعناها الإيجابي: التناصر والوفاء وحماية العرض والنسب. فجاء الإسلام لا ليهدم تلك البنية بل لينقّيها ويهذّبها فحوّل العصبية من تعصّبٍ للدم إلى تعصّبٍ للحقّ والرحم.
قال تعالى:
"واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"
وفي الحديث الشريف: "من أحبّ أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه"
فصلة العمّ والخال ليست مكرمة اجتماعية فحسب بل عبادة قلبية تصل الأرض بالسماء وتعبّر عن امتثالٍ لنداء الفطرة قبل نداء الشريعة.
إنها تربية على الوفاء وتأكيد لمعنى الإنسان في منظومته الأوسع الإنسان ابن النسب والرحم لا ابن الفردية والانعزال.
لكن مع تسارع المدنية الحديثة التي نعيشها قد تغيّرت صورة الأسرة العربية وتقلّصت دائرة القربى إلى حدود ضيقة.
ضعفت الصلات وتباعدت البيوت وصار العمّ والخال ذكرى من ماضٍ قريب لا يُستحضر إلا في المناسبات
حلّ محلّ التزاور صمت الأجهزة ومحلّ الودّ الرسميات الباردة
وبهذا الانفصام بين الجذر والفرع بدأت القيم العربية والإسلامية في الانحسار لأنّ الرحم ليست علاقة دمٍ فقط بل مدرسة أخلاقٍ واجتماعٍ وإيمان
فإن تراجع مكانة العمّ والخال هو في جوهره تراجع لمفهوم الرحم نفسه ذاك الذي أراده الإسلام أصلًا في بناء المجتمع
فمن لا يعرف لأرحامه قدرهم ينسى معنى الجماعة ويغترب عن هويته ويعيش فردًا في فراغٍ واسعٍ لا جذور له
فليس المقصود أن نعود إلى أنماط العيش القديمة بل أن نعيد الروح التي سكنت تلك الأنماط
أن نُحيي فينا قيمة الرحم ونوقن أن في العمّ ظلّ الأب وفي الخال ظلّ الأم وأن احترامهما هو احترام لجوهر هويتنا العربية والإسلامية.
فمن صان الرحم صان نسبه ومن حفظ أصله حفظ ذاته ومن أكرم عمَّه وخاله فقد أكرم تاريخه وعبّر عن وفائه لموروثٍ عظيمٍ صاغ لنا معنى الإنسان المتّصل لا المنعزل
فإنّ العودة إلى قيم الأسرة الممتدة ليست استرجاعًا لماضٍ مضى بل عودة إلى الذات الحقيقية تلك التي غرسها فينا القرآن والسيرة النبوية والمروءة العربية حين كانت الرحم تُبنى بها الأوطان وتُصان بها الكرامة.