قد يبدو الأمر غريبا في البداية ما علاقة المايونيز ومستحضرات الوقاية من الشمس بالفضاء؟ لكن الحقيقة أن هذه المواد اليومية تخفي وراءها عالما معقدا من السلوكيات التي لطالما حيّرت العلماء. فهذه المواد، التي تُعرف بـ"المواد اللينة" مثل الهلام والرغوة والغرويات، تمتلك بنية داخلية تتغير ببطء مع مرور الوقت، مما يؤدي إلى انفصال المكونات أو تبدّل القوام. المشكلة أن دراسة هذه التغيرات على الأرض صعبة للغاية بسبب تأثير الجاذبية المستمر.
هل تساءلت يوما لماذا ينفصل المايونيز في الثلاجة أو يتغير قوام واقي الشمس مع مرور الوقت؟ يدرس العلماء على متن محطة الفضاء الدولية سلوك هذه المواد اليومية لمعرفة تأثير الجاذبية عليها واكتشاف أسرارها الخفية.
حتى الآن، كان من الصعب على العلماء دراسة هذه التغيرات بدقة على الأرض، لأن الجاذبية المستمرة تؤثر على سلوك المواد وتخفي تطورها الطبيعي. لذا، يطرح السؤال نفسه: ماذا يحدث لهذه المواد في بيئة تكاد تكون فيها الجاذبية معدومة؟
وكشفت تجربة علمية على متن محطة الفضاء الدولية عن حقائق مفاجئة حول سلوك المواد اللينة مثل المايونيز وواقي الشمس والكريمات، إذ تبيّن للباحثين أن الجاذبية على الأرض تؤثر في هذه المواد أكثر بكثير مما كان متوقعًا، وتُغيّر بنيتها على مدى الزمن بطرق لا يمكن رصدها بسهولة، وفقا لموقع " dailygalaxy".
وفي بيئة انعدام الجاذبية، تمكن العلماء لأول مرة من مراقبة هذه المواد وهي تتطور وتُعيد تشكيل بنيتها الداخلية بشكل دقيق دون تأثير الجاذبية، مما أتاح فهما أعمق لكيفية شيخوخة هذه المواد واستقرارها. وتفتح هذه النتائج الباب أمام تحسينات كبيرة في الصناعات الغذائية والتجميلية والدوائية، عبر تطوير منتجات أكثر ثباتًا وجودة تدوم لفترة أطول على الأرض.
واتجه فريق من الباحثين من معهد البوليتكنيك في ميلانو وجامعة مونبلييه إلى المكان الوحيد الذي يمكنهم فيه مراقبة هذه المواد دون تدخل الجاذبية وهو محطة الفضاء الدولية. هناك، أطلق العلماء منشأة متطورة تُدعى COLIS لدراسة كيفية "شيخوخة" المواد اللينة وإعادة تشكّلها في ظروف انعدام الجاذبية تقريبا.
هذا المشروع، الذي يعمل عليه الباحثان لوكا سيبيليتي وروبرتو بياتزا منذ أكثر من 25 عاما، يستخدم تقنيات مثل تشتت الضوء الديناميكي، حيث يُسلَّط ليزر على العينات لرصد التغيرات الدقيقة في طريقة انعكاس الضوء. من خلال هذه الأنماط الضوئية المتغيرة، يستطيع العلماء متابعة بنية المواد لحظة بلحظة.
النتائج الأولية كانت مفاجئة حتى للفريق نفسه. فقد اتضح أن الجاذبية تلعب دورا هائلا في التحكم بسلوك المواد اللينة أكبر بكثير مما كان متوقعا. وعبّر بياتزا عن دهشته قائلاً إن الجاذبية "تتدخل بصمت في تشكيل المنتجات التي نستخدمها كل يوم".
ولا تقتصر أهمية هذا البحث على الفضاء فقط. ففهم كيفية تغيّر المواد اللينة قد يؤدي إلى تحسين تركيبات المنتجات التي نعتمد عليها من مستحضرات التجميل إلى الأغذية وصولاً إلى الأدوية بحيث تصبح أكثر ثباتا وطول عمرا. وتُعد الجسيمات النانوية الغروانية التي يدرسها مختبر COLIS عنصرا مثاليا لتطوير هذه المعرفة.
بفضل دعم الوكالة الأوروبية للفضاء ووكالات أخرى، يُتوقع أن تفتح هذه التجارب الطريق أمام جيل جديد من المنتجات الأكثر جودة على الأرض، وقد تُفضي نتائج هذه التجربة الفضائية إلى تركيبات أكثر موثوقية لمختلف الأغراض، من المستحضرات إلى الأدوية، إذ إن فهم استقرار هذه المواد في ظل انعدام الجاذبية يُحسّن من أدائها على الأرض.