نيروز الإخبارية : نيروز الاخبارية: بقلم الدكتور عديل الشرمان
يبدو أن حال الكثير من السياسيين لدينا أشبه ما تكون بحال من اكتفى من الشراب برشفة, وراح يتظاهر بالارتواء حتى جفّ ريقه وأصابه الجفاف, أو كمن اكتفى برائحة الطعام, أو تذوقه ثم تظاهر بالشبع حتى أصابه الضعف والوهن, ثم ارتمى أرضا وسقط مغشيا عليه.
هذه حال الكثير ممن يدّعون معرفتهم بالسياسة ويلهثون وراءها, والواقع السياسي في الأردن يعاني من هذه المشكلة والتي باتت سمة بارزة في الثقافة الأردنية على مدى السنوات الأخيرة, وملامحها بدت واضحة ومتمثلة بالعنف اللفظي, واستخدام المنكر من الأصوات في الحوار والنقاش, والشتائم وتبادل الاتهامات, وارتفاع معدلات الكذب السياسي والنفاق الاجتماعي والذي يمارس في المجالس, ومواقع العمل, وعلى مواقع التواصل الاجتماعي, وعلى أعلى المستويات.
السياسيون أو من يدعون أنهم سياسيون وعلى معرفة ودراية في السياسة هم كثر, تجدهم في كل المحافل والمجالس والمنابر، حتى على قارعة الطريق، فالثقافة السياسية اصبحت السائدة والمسيطرة, وهذا ما يجعل رحلة البحث عن رجال السياسة رحلة قصيرة وسهلة, وحساباتها ضيقة وشخصية, وهي محفوفة بالمصالح وفيها قدر كبير من اللعب والعبثية والمحسوبيات, وهي تختلف كليا عن رحلة البحث عن رجال الدولة, والتي تحتاج إلى عناء كبير, فهي رحلة شاقة وطويلة وتتطلب التأني والصبر, وحساباتها أخلاقية ووطنية, لذا وإن كانوا – أي رجال الدولة- كثر إلا أن قلة منهم معروفة للرأي العام, بعكس الحال بالنسبة للسياسيين.
البعض من السياسيين عندما يعتلي الكرسي, ويتقلد مهام المنصب يصحو بعد فترة من الزمن من سكرته ونشوته وقد سقطت شعاراته, ليبدأ مسيرة من الكذب والتدليس, والتهرب من العهود والوعود, خاصة عندما يجد نفسه أمام كم هائل من الطلبات والوساطات, ليكتشف أن الوفاء بما قطعه على نفسه من وعود لن يلامس حجم التوقعات, وسقف الطموحات, فينهار عليه السقف, ويصبح مكشوفا عاري الجسد, ويروح يلملم ملابسه, ويدير وجهه خجلا من الناس.
إلا أن قسما من هؤلاء السياسيين لا يأبه بما أصابه, ولا يهمه ما يقول الناس عنه, فهو ما زال يشعر بنشوة المنصب والجاه, وقد طاب له الولوج في زحمة المظاهر والشكليات, ولذة التملق والمدح والإطراء, ولم يعد الحياء موجودا في قاموس المعاني لديه, أو في منظومة القيم والأخلاق عنده, لذا فهو مستعد مع كل مرة ينتهي فيها دوره السياسي لإعادة المحاولة, ودخول معترك جديد من الصراع للاحتفاظ بالموقع الذي يجلب له النفوذ والمال, ومع كل محاولة تزداد طموحاته وتعلو لديه الآمال والرغبات في مكانة أعلى وأرفع.
كثير من السياسيين عندنا هم ممن يمعنون التفكير في الوسائل والاساليب التي يمكن من خلالها أن يربحوا الجولات القادمة للوصول الى كراسي السلاطين, ولا يهمهم مآسي المواطنين, وهم بارعون في التمثيل وإطلاق الوعود, وهم يعرفون أنها لا تعدو كونها مجرد مجاملات وعبارات للاستهلاك, وكأنهم يقومون بأداء عمل مسرحي, في حين أن المحبطين اليائسين والغارقين في الأحلام والأوهام والذين يبحثون عن قشة يتعلقون بها يظنون أنها عهود, وينتظرون منهم الوفاء, لكنهم –أي المواطنين- يصابون بخيبة أمل عندما تتبدد آمالهم وأحلامهم فيما حصلوا عليه من وعود.
والكثير من السياسيين يغدقون الأموال لإطعام الطعام على كرهه منافقا ورخيصا وسحيجا, ويشترون به ذمم المواطنين, وينفقون الكثير على الحملات الإعلامية, ويسخّرون شعبهم ووطنهم لخدمتهم, وخدمة مصالحهم بدلا من أن يكونوا شرفاء وأحرار يسخّرون أنفسهم لخدمة بلدهم وشعبهم, ويعتمدون على بلاغة الكلمة المقرونة بالأفعال ويزنون الأمور بالحكمة والعقل, والمشغولة أذهانهم برضى الله, ومن ثم رضى الأجيال القادمة.
شتان ما بين رجل الدولة, ورجل السياسة, أحدهما يحمل المواطن على كتفه, ولديه الإرادة في أن يعمل شيئا من أجل بلده, والآخر يدوس رقاب المواطنين متسلقا على أكتافهم للوصول إلى غاياته منتظرا من بلده أن يفعل شيئا من أجله.
إلا أن السياسة ليست كلها كذب وتدليس, وليست وسيلة للخداع والمراوغات, وتحقيق المصالح الشخصية, وممارسة الأفكار النفعية, وهي مترادفات غلبت على ثقافتنا في وصف السياسة والسياسيين, لكن بعضها نظيف يقوم على مبادئ أخلاقية, والسياسيون الذي يمارسون عملهم على هذا النحو هم رجال دولة وسياسيون في آن واحد, وهم من يستحقّون أن نجهد أنفسنا في البحث عنهم والوصول إليهم, فهم وسيلتنا للنجاة في وقت بات فيه الإحباط واليأس مخيما, وعلامة فارقة في حياتنا.
لذا فنحن بأمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى للإبحار في الأعماق بحثا عن رجال للدولة الأردنية بغض النظر عن أعمارهم وانتماءاتهم, وأطيافهم وألوانهم, وأصولهم ومنابتهم, وأية حسابات أخرى, فالسفينة ما زالت تطفو رغم ما أصابها من ضعف وتلف, وقد لا تقوى على مواجهة ارتفاع الأمواج والإبحار بعيدا نحو شاطئ الأمان, فهل من منقذ قبل فوات الأوان.