كلماتٌ يرددها الأردنيون فيحيا بها صوتُك وفكرُك يا وصفيّنا : "أنا أردني وأعتز وأفتخر بأنني عربي أردني"..
" ليس من بيتٍ إلا ووجد فيه من قاتل أو قُتل أو جُرح أو ضحّى من أجل فلسطين "..
" والإقليمية شيء لا وجود له لدينا في الاردن ،
فنهر الأردن لم نسميه نهر الأردن ولا سمينا أهل فلسطين فلسطينيين ، وطول عمرنا نقول عنهم قرايبنا (الغرابا) وقرايبنا (الشراقا) ، ونهر الأردن نقول عنه (الشريعه) "..
أكثر من ثماني وأربعين عاماً قد مضت كل عام كان يمر تزداد القناعه وتتسع بأنه لم يكن رئيسَ وزراء عادي ، بل كان صاحب رؤيا ومشروعاً وطنيّا.
لن أحاول الكتابة عن سيرته ومناقبه ، فقد اجمع خصومه قبل أنصاره بأنه رجلاً استثنائيًا ، لكنني سأتحدث عن تلك الرؤيا وذاك المشروع حتى ترجّل دون أن يتمّه، مشروع الوطن النموذج ورؤيا وصفي التل.
ففي صيف عام ١٩٦٠ حدث الاغتيال السياسي الثاني في التاريخ الأردني الحديث ، تفجيرٌ كبيرٌ يهز أركان رئاسة الوزراء وسط عمان ، لقد اغتيل هزاع المجالي رئيس الوزراء ، وقتها كان وصفي التل مديراََ لدائرة التوجيه الوطني ، ومسؤولاً عن الجهاز الإعلامي في الدولة ، وكان مكتبه في رئاسة الوزراة إلى جانب مكتب هزاع المجالي تماماً ، لكنه لم يكن موجودًا حينها فنجا ، لكنه أدرك الإشارة فالمرحله القادمة ستكون دموية ، وحبلى بالأزمات والتحديات.
إذْ قال حينها : "المعركة ضد التهريج والتزوير والخطأ معركة لابد يصير لها ضحايا ، ومن ضحاياها كان هزاع ، ويجوز اكون انا الضحية وبيجوز يكون غيري هو الضحية ، فإذا كنا على حق سيكون من واجبنا نقدم هالتضحية "..
وبعد أربعة عشر شهراََ على اغتيال هزاع المجال كان الملك الراحل الحسين بن طلال يتم عقده الأول متربعًا على العرش ، وكانت الأزمات محيطة بالدولة من كل جانب ، لذا كات يتحتم على الملك الحسين اختياز رجاله بعنايةٍ فائقة.
فكان وصفي التل أحد أهم المرشحين ليكون رئيسًا للوزراء ، تاريخه وسيرته في العمل السياسي كانت من أهم الأسباب التي دفعت بأن يكون عنوانا َ كبيرا َ ، وأضافة إلى أنه رجل له رؤيا خاصة دلت عليها مجموعة الأوراق التي حفظت في أرشيفه ( الوحدة ، الحرية ، الحياة الفضلى) ، والتي تبينُ عمق الرؤيا التي يتمتع بها.
فخصّه الملك باحترام لم يحظ به أحد من قبله ، وقدّمه على الجميع فلم يُنافسه رئيس لديوان أو قائد لجيش أو حتى ولي للعهد .
فعلاقته بالملك لم يحظ بها أي رئيس وزراء مع مليكه . فكأن التناغم بينهما كان فطرياً أو حتى كأنهما وجهين لشخصٍ واحدٍ. وهنا لا نتكلم عن أي ملك بل عن الملك الحسين صاحب أكبر شعبية وكرزما واحتراما في الاردن والعالم أجمع .
فكان مشروعاََ متكاملاًَ للنهضة في الأردن فما زال الأردنيون يتلمّسون أثره إلى يومنا هذا. وكان رجلاً استثنائياً قوياً وجريئاً في قول الحق ، قريباً من الناس ، فتلك الجرأة والقوة والقرب من الناس جعلته رمزاََ وطنياََ إذ كان يرى أن الأوطان لا تبنى إلا بجهود الأقوياء.
إذْ قال : "الذين يعتقدون أن هذا البلد قد انتهى واهمون، والذين يعتقدون أن هذا البلد بلا عزوة واهمون كذلك، والذين يتصرفون بما يخص هذا البلد كأنه (جورعة) مال داشر واهمون كذلك، والذين يتصرفون كالفئران الخائفة على سفينة في بحر هائج سيغرقون هم كما تغرق الفئران وستبقى السفينة تمخر العباب إلى شاطئ السلامة..".
فعندما تنظر إليه يبدو وكأنه سنديانه أصلها ثابت في الأرض ، حيث هباه الله الطول فكان واثق الخطوة يمشي شامخاً لا ينحني أبداَ، تلوحت جبهته السمراء بألوان سهول حوران وكانت تعابيره حاده جافة صلبة ، له حاجبان سوداوان داكنان يرتفعان فوق عيني "صقر وكأنه للقنص مُتحضر".
وقد ورد في الوثيقة البريطانية "أما في صيف عام 1970 فقد قاد التل الجهود التي أقنعت الملك بضرورة القيام بعمل ما ضد الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن و كان له دوراً حاسماً في بسط سيطرة الحكومة الأردنية أثناء الاشتباكات". واعتبر هذا الصراع صراعاً بين قوى القانون والنظام وقوى الفوضى.
ومن هُنا أُتُهم وصفي أنّه كان ضد الفلسطينين وضد العمل الفدائي. لكنَّ وصفي كان له رأيٌ اّخر اذ أنه لم يجد سبباً واحداً لوجود عناصر مُسلحة على الأراضي الأردنية تجوب المدن الأردنية بلا حسيب ولا رقيب تقوم بممارساتٍ استفزازيةٍ خارجةٍ عن القانون قائمة على أساس ارساء دعائم الفوضى في البلاد .
وفي 26 أيلول 1970 وصل الملك حسين إلى القاهرة للمشاركة في القمة العربية وسط استقبال عدائي من رؤساء وقادة الدول العربية ولقاء بارد مع عرفات ، إلا أنهما وقّعا اتفاقا في اليوم الثاني بحضور عبد الناصر لوقف فوري لإطلاق النار في كل أنحاء الاردن وسحب الجيش الأردني وقوات المقاومة الفلسطينية من كل المدن في مساء نفس اليوم. وعلى أساس هذا الاتفاق خرجت هذه الفصائل المسلحة من الأردن "كنز الجغرافيا" ومن عمان "هانوي العرب" بروح الانتقام..
إذ توفي جمال عبدالناصر في 28 أيلول 1970 وتولى قيادة مصر من بعده السادات. وفي28 تشرين الثاني من عام 1971حضر وصفي اجتماع وزراء الدفاع العرب في القاهرة في ظل أجواءٍ عربيةٍ مشحونةٍ .و بالرغم من تحذير الملك ومدير المخابرات له بعدم الذهاب الاّ أنّ وصفي أصرّ على الذهاب ليقارع الحجة بالحجة. وكان واضحاً ومُنذ لحظة وصوله الأولى أن السلطات المصرية لم توفر له الحماية اللازمة ، وهناك تم اغتياله وتلقى جسده الطاهر أربعة عشر رصاصة.
فكان غيابه مريحاً للكثيريين حيث تواطأت أطراف عربية وأنظمة عربية كثيرة لطي صفحة وصفي التل منها النظام المصري والسوري والجزائري والليبي والمنظمة.
لكنّ الملك الحسين الراحل نعاهُ بحُرقة وألم ، وأحدثت وفاته مأتماً في كلّ بيت أردني وطعنة في الظهر .
إذْ كان يوماً هاماً في تاريخ الأردن ، ليس مهماً ما حدث وكيف حدث لكن المهم أن وصفي التل قد غادر ، وأن صاحب المشروع لم يعد موجوداً ، لقد دفع ثمن تقديمه للخُلق ، لم يكن شرقيّاً ولا غربيّاً ، بل كان وطناً مجبولاً بالفوتيك والحلم.
وبالفعل وكما قال الشاعر الكبير حبيب الزيودي فإنّ وصفي افتدى الأردن بدمه ، إذْ صعدن الأردنيات على أسطح المنازل وقلن باللهجة الأردنية الفطرية :
(يلّي قتلتوا وصفي إرموا عليه عباته وقولوله زعلن عليه خيّاته!!! )..