ما زالت ذكريات تلك الفترة الزمنية عالقة في ذاكرته. محفورة وراسخة في شريط ذكرياته وان لم يكتبها بعد رغم ان له اربعة مؤلفات مطبوعة ويتمتع بذاكرة جيدة جدا حيث يحدثك عن تلك الفترة وشخوصها وطقوسها واحداثها وكأنه عائد للتو من حضرموت.
هذه الذكريات عاشها احد ضباط الجيش العربي الاردني العميد فهد مقبول الغبين الذي خدم مدة 27 عاما في القوات المسلحة الاردنية. خدم منها ما بين اعوام 1955- وعام 1957 قائدا للجيش البدوي الحضرمي الذي اوفد اليه للتدريب واستلام مهام قيادته ايام الاستعمار البريطاني لليمن الجنوبي خلال تلك الحقبة الزمنية.
بهذا الحوار نغوص في اعماقه ونعود به الى الوراء لتلك السنوات التي مضت نقلب خلالها اوراق الماضي ونقرأ عن حقبة زمنية تاريخية هامة.
لقاء نستعيد به ابرز المحطات لاحداث وقعت في القرن الماضي بكل تفاصيلها المظلمة والمضيئة والموجعة والمحزنة والمؤلمة في نفس الوقت. تاريخ لا يعرفه القراء. يكشف اوراقه العميد الغبين الذي يروي ل¯ "العرب اليوم" ذكرياته عن اليمن وعمله قائدا للجيش البدوي الحضرمي. يتحدث عن رحلة العذاب والذل والظلم والقهر والحرمان والجوع والمرض التي كان شاهدا عليها.
ولاننا في "العرب اليوم" نبحث عن سجلات رجال لهم تاريخ مشرق اجرينا لقاء مع هذه الشخصية العسكرية التي ساهمت بتدريب وتأهيل جيش حضرمي شارك في حماية الارض الحضرمية وانسانها من سياسة القمع التي كان يرتكبها جنود الاحتلال البريطاني انذاك وفيما بعد كان هذا الجيش نواة للثوار الذين حرروا بلادهم من الاحتلال البريطاني ويتذكر الغبين احداث تلك الفترة قائلا: لقد كان المرحوم سمو الامير عبدالله بن الحسين (الملك المؤسس) طيب الله ثراه يهتم بشؤون المسلمين والعرب في ان واحد وخاصة دول الخليج العربي واليمن الجنوبي سابقا. وكان النظام العربي الوحيد الذي يدعم اليمن الجنوبي في القرن الماضي هو الاردن, ويأتي هذا الاهتمام بتوجيهات من العائلة الهاشمية وخاصة سمو الامير عبد الله بن الحسين الذي اوفد فعاليات اردنية في اوائل اربعينيات القرن الماضي وتحديدا من عام 1941 وخاصة العسكريين لتأسيس وتدريب وتنظيم وتطوير نواة الجيش والامن والحرس الوطني في كل دول الخليج بما فيها اليمن الجنوبي سابقا (المحمية الغربية عدن وتوابعها) و(المحمية الشرقية حضرموت وتوابعها).
الضباط الاردنيون
ويضيف كانت المجموعة الاولى من الضباط الاردنيين القدماء الذين تم ايفادهم الى اليمن الجنوبي وحضرموت عام 1941 م لتأسيس وتدريب الجيش الحضرمي البدوي على النظرية التدريبية والقيادية.
واذكر منهم العقيد بركات طراد الخريشا والمقدم عبد الله سليمان السعدون والرائد عبد الهادي حماد العتيبي والنقيب خالد مجلي الخريشا والنقيب حسن مؤمن المومني.
ويقول عملت هذه المجموعة في المحميات الشرقية بمدينة المكلا والمحمية الغربية في مدينة عدن.
والمجموعة الثانية التي تبادلت مهمة التدريب وصلت عام 1947 وتتكون من المقدم نايف جديع الفايز والمقدم علي الفارع واخرين.
اما المجموعة الثالثة التي حلت مكانها عام 1955 فكانت تضم الرائد فهد مقبول الغبين والمقدم عبدالله السعدون الذي مددت له الخدمة سنتين والرائد قفطان القاضي والرائد فلاح بخيت العطين. والمجموعة الرابعة اذكر منهم الرائد مطيع حماد السحيم وثلاثة ضباط.
الجيش البدوي الحضرمي !
وقال اسست المجموعات الثلاث الاردنية وخاصة المجموعة الاولى التي وصلت الى اليمن عام 1941 نواة الجيش البدوي الحضرمي في المحمية الشرقية (المكلا) العاصمة على غرار تأسيس قوات البادية الاردنية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
واضاف عندما التحقت في شباط من عام 1955 بهذا الجيش وتسلمت قيادته من العقيد نايف جديع الفايز وجدت ان هذا الجيش بامس الحاجة الى اعادة النظر خاصة في الهيكلية والتنظيم وتأسيس مرتبات الخدمات الادارية وايجاد رواتب لها مع علاوات مغرية وخاصة لـ(اصحاب المهن الادارية) مع ايجاد سلم رواتب لهم ولعائلاتهم. ودربنا هذا الجيش على كيفية الحصول والتعامل مع الارزاق اليومية والاسبوعية والشهرية. وكذلك تأسيس الفئات الادارية المساندة الطهاة, الحلاقين, الخياطين, السواقين, والكوايين والغسالين والمراسلين.
مسؤولية هذا الجيش !
وقال وقعت على هذا الجيش مسؤولية حفظ الامن على الحدود اليمنية الخارجية التي تمتد من عُمان شرقا والسعودية شمالا واليمن الشمالي غربا. الى جانب تواجد هذا الجيش في جزيرة سوقطرة التي تقع في بحر العرب وسكانها يتكلمون اللغة المهرية اضافة الى العربية وهذه الجزيرة تمتد شمالا لغاية الحدود العمانية الحضرمية. وقد انضم عدد من سكان سوقطرة الى الجيش. اما الجهة التي قامت بتقديم نفقاته المالية في (حكومة عدن) الحكومة البريطانية كون مقر المندوب السامي فيها.
وأشار أن الزي (اللباس) العسكري للجيش الحضرمي كان على غرار زي قوات البادية الاردنية مع فارق بسيط, والأسلحة متوسطة وخفيفة مدافع مجرورة ورشاشات وبنادق ومسدسات أي أسلحة تقليدية.
الأمن الداخلي
وأشار بأن مسؤولية الأمن الداخلي في حضرموت كانت من واجبات ومسؤوليات الجيش (الليوي) الأمن العام ولباسه كان على غرار اللباس الهندي.
وقال في الثلاثينيات والاربعينيات وحتى منتصف الخمسينيات كانت هناك مشاكل بين القبائل الحضرمية والعمانية والسعودية, غزوات وحروب وفزعات, بين القبائل حيث ان القبائل غير محكومة, وسادها نزاع على الأراضي, وهذا الوضع ادى الى فقدان الامن والاستقرار. وأضاف خلال تواجدنا استطعنا وقف الغزوات واجراء المصالحات بين القبائل المتنازعة الى حد ما.
وكشف النقاب ان السياسة البريطانية هي المحرك لهذه الغزوات والمغذي لها حيث كانت تقوم بدعم زعماء القبائل ضد بعضهم البعض سرا وتزويدهم ومدهم بالمال والسلاح من دون ان يعرف طرف عن الطرف الاخر وذلك لادامة الفتنة بين القبائل. لاستمرار الحروب بينهم, بينما البريطانيون يتفرجون من بعيد وتطول فترة استعمارهم ويبقى السكان مشغولين بهذا الوضع.
واضاف كان سائدا أيام الاستعمار البريطاني لليمن الجنوبي الفقر والجهل وانتشار الأمراض, وهذا حتى ان العلم والتعليم كانا نادرين جدا ولا توجد الا مدرسة ثانوية في مدينة (غيل باوزير) الواقعة شمال شرق مدينة المكلا ب¯ 40 كيلو. وكانت المستشفيات محدودة ولا يوجد سوى المستشفى الانجليزي في عدن. والامراض المعدية كالحمى الصفراء والجدري والملاريا كانت متفشية بين السكان جراء وصول الحجاج القادمين من اندونيسيا وماليزيا وباكستان سيرا على الاقدام الى سواحل بحر العرب. وخاصة المدن الساحلية المكلا والشحر وغيرها, حيث كنا نقوم بعمل حجر صحي على السكان.
وقال في 1947 حدثت مجاعة ما اضطر الحكومة المحلية والبريطانية الى اقامة مراكز اغاثة على مواقع مختلفة بين الحدود الحضرمية والسعودية والعمانية واليمن الشمالي ولقد توفي بسبب هذه اكثر من 17 الف مواطن يمني جنوبي.
الجيش البدوي الحضرمي !
وقال لقد ادى تشكيل هذا الجيش الى بث روح الامن والاستقرار في المنطقة الى جانب انه انتهج سياسة تربوية عبر اقامة مدارس لتعليم مرتباته واولادهم على غرار مدارس قوات البادية الاردنية في الاربعينيات من القرن الماضي ولا تزال هذه المدارس قائمة في المناطق النائية حتى الان. وكان رئيس وزراء محمية حضرموت الشيخ قدال سوداني الجنسية. وكان المعتمد البريطاني بالمكلا المستر "بوستنط" ونائبه المستر "وطس". وكانت العربية والانجليزية اللغتين الرسميتين.
الطرق !
وأضاف لا توجد طرق لشدة وعورة المنطقة, حيث جبالها الشاهقة وصحراؤها القاحلة الواسعة ومدنها تتباعد عن بعضها البعض.
وقال من مدنها الداخلية شبام, سيئون, تريم, دوعن, المشهد عاصمة بني هلال. والمدن الساحلية عدن, المكلا, الشحر. والمحمية الغربية بيحان, العوالق العليا,
وأشار الغبين ان الحضارم كانوا يطلقون على زعيم القبيلة لقب مقدام واذكر منهم مقدام قبيلة الصيعر ومقدام قبيلة دهم ومقدام قبيلة بان هيم ومقدام قبيلة نوّح ومقدام قبيلة بني مرة ومقدام قبيلة الجوهي. ومن ابرز سلاطين المحمية الغربية السلطان الشريف صالح سلطان سلطنة بيحان. والسلطان علي عبد الكريم سلطان سلطنة لحج ومن ابرز سلاطين المحمية الشرقية السلطان عوض القعيطي والسلطان الشريف حسين الكثيري سلطان سلطنة كثير.
الحكم
واضاف العميد المتقاعد فهد الغبين بانه رغم عنفوان الاستعمار البريطاني الا ان الحكم السائد هناك كان حكم الشرع الاسلامي بين السكان.
اما الزي المدني للرجال فكان عبارة عن الصارون الهندي, الوزرة والرجل يسير مكشوف الرأس والظهر والصدر, الا ما ندر وفي الداخل كانوا يرتدون القميص والصارون الاخضر والحزام. بينما النساء في البادية والمدن يرتدين اللباس الاسلامي المحتشم مع الخمار.
التقاليد والمنازل والطرق:
وأوضح أن لدى بني مرة تقليد وهو ان المواليد ذكورا او اناثا يسمون باسم الأم وليس الأب. معللين ذلك بأن الانسان ينادى في يوم القيامة باسم الام وليس الاب.
المنازل
ويضيف الغبين بأن منازل المدن الساحلية خاصة في عدن والمكلا والشحر. هي ذات طوابق عالية وكثيرة النوافذ والسبب يعود لمواجهة شدة الحر. وعادة تبنى من الطين والجبص والاسقف من الخشب والقصيب وسعف النخيل.
واضاف ان اسم حضرموت هو بلاد الاحقاف وسميت حضرموت نسبة الى وعورة الوادي الذي كان يتواجد فيه قطاع الطرق فكان الناس يحذرون بعضهم البعض (احذروا الموت) ومن هنا جاءت تسمية حضرموت. التي تكثر فيها قطعان القردة.
وأشار أن السكان يتنقلون بين المدن على البهائم أما نقل البضائع خارج مدن الصحراء فيتم على ظهور الابل التي تمتاز بالحجم الصغير.
وأضاف كان اليمنيون يزرعون الذرة الصفراء والدخن واكثر الوجبات التي يتناولونها الارز المطبوخ على الطريقة الهندية ويضعون عليه (البسباس) اي الفلفل الحار.
رسالة الى المغفور له الحسين بن طلال
يقول العميد الغبين انه في احد الاعوام نقلت رسالة من رئيس المجلس الاعلى الديني الشيخ عبدالله ابكيري الى جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال رحمه الله. وقام بتسليمها الى رئيس الديوان الملكي العامر دولة المرحوم بهجت التلهوني. ويضيف لم اعرف محتواها. ولكنني استطيع القول ان ما لمسته من خلال تعاملي مع الزعماء اليمنيين ان نظرة الشعب الحضرمي الى العائلة الهاشمية نظرة يسودها الود والاحترام. وانه لولا وجود دولة عربية بين حضرموت واليمن الجنوبي والاردن لمدوا اياديهم الى الهاشميين في الاردن.
وتوضح أن الحضارم لم يكونوا راضين عن الاستعمار البريطاني ولكنهم كانوا مغلوبين على امرهم.
اضراب
وقال لقد طلبت ومن معي من الزملاء من الضباط وضباط الصف في الجيش البدوي الحضرمي القيام باضراب من اجل تحقيق مطالبهم المتمثلة بتحسين اوضاعهم المعيشية الواجب توفرها لكل عسكري.
وقلنا لهم نحن معكم ضد الانجليز ولا تستمعوا الى تعليماتنا التي نقولها لكم امام الانجليز.
ووقفنا الى جانبهم امام اصرار الانجليز في بداية الامر. وبقي الاضراب مستمرا لمدة 14 يوما حتى تحققت جميع مطالبهم..