الشيخ حديثة بن علي الخريشا رجل ولا ككل الرجال، وبطل لا ككل الأبطال.
وفي هذه العجالة نحاول إلقاء الضوءعلى ومضات من حياته رحمه الله تعالى آملاً من الزملاء الكرام والزميلات الكريمات إثراء هذا الموضوع بما لديهم من معلومات حول هذا البطل، الذي أعتقد أنه لم يوف حقه.
أولاً: عائلة الشيخ حديثة
الشيخ حديثة هو ابن علي بن عبدالله بن الحميدي بن خلف بن سالم بن سليمان بن حنيف الخريشا. وله من الأبناء علي وجمال ونواف ونايف ومجحم وتركي وحاكم. ومن أبرز أحفاده الشيخ فيحان بن علي بن حديثة الخريشا. ويسكن معظم الخرشان في منطقة لواء الموقر.
ثانياً: شجاعة الشيخ حديثة
ذكر الأستاذ منديل الفهيد رحمه الله تعالى في كتابه (من آدابنا الشعبية في الجزيرة العربية) أن الشيخ حديثة كان يعدل ثمانين فارساً. وللشيخ حديثة بطولات كثيرة، وهذه الابيات للشاعر سطام حصيني الشمري قالها في حديثه الخريشا، في موقعة بين الخرشان وبين أهل البلقاء، وحينما كان سطام الشمري يرعى إبله في ديار بني صخر مع ابنته الصغيرة، وتدعى ريّوف،أغار عليه متعب الكنج ومعه قبائل السردية والدروز ونهبوا إبله، وفزع حديثه وأخوه نايف، وافتكوا إبل الشمري من الغزاة. وفي ذلك اليوم قتل حديثه فارساً من فرسان الدروز الشجعان المشهورين، وأشاد سطام بموقف حديثه وأخيه نايف،
ومن الأكوان التي كان فيها الشيخ حديثة الخريشا عقيداً لبني صخر وذلك في عام 1922م، حيث وصل طلب النجدة (المقلّدة) من الشيخ حتمل الزبن إلى الشيخ حديثة أن الحويطات صمموا على النزول في الثمد، فركب الشيخ حديثة وهب معه الخرشان، ووصلوا إلى منطقة أم الرصاص في الليل. فقال الشيخ حديثة (للصبح وأنتم وإياهم تحت الله). وفي الصباح ظهر أن الحويطات كانوا مجمعين حلالهم ومحضرين المتاريس بظهرة السواقة. وكان من ضمن فرسان بني صخر الشيخ قفطان الصحن ومعه مائة خيّال. وحدثت المعركة
ثالثاً: صفاته
من صفات الشيخ حديثه كرمه الواسع. والكرم عند بني صخر صفة تكاد تكون عامة بينهم، ومن الخرشان الذين اشتهروا بالكرم حميدي الخريشا الذي لقب ب(مصوت بالعشا). ومنهم مجلي بن طعان الكليب من الخرشان ، الذي كان يلقب بتلّ اللحم، وذلك لكرمه الواسع.
أما الشيخ حديثة الخريشا فتحدث عن كرمه ولاحرج، وقد تحدّث الرحالة سيبروك عن كرم حديثة الخريشا، فقال: (اشتهر حديثة بكرمه الفائق، ذلك الكرم الذي جلب عليه وعلى عشيرته الفقر، وكان قبل ثلاثة أسابيع قد قسم جميع ما يملك مناصفة بينه وبين عشيرة السراحين)ومن صفات الشيخ حديثة الخريشا، رحمه الله تعالى، استعلاؤه على الخلافات القبلية، والتزامه بالآداب الإسلامية والعربية الأصيلة، عندما يتعامل مع القادة من القبائل العربية الأخرى.
ومن ذلك قصة الشيخ حديثة مع الفارس المشهور غريب بن معيقل الشلاقي الشمري، وهي قصة موجودة في هذا المنتدى، ولا حاجة لتكرارها هناومن قصص الشيخ حديثة، ماحدث مع القائد الفذ الشيخ النوري الشعلان عندما اتهمت الحكومة التركية النوري بقتل أخيه فهد، ووضعته في السجن، وذكروا أنهم سيقتلونه. كان النوري في السجن يهيجن، سمع حديثة الخريشا بقصة النوري، فاتصل بوالي الشام، الذي قال له: منقريتك عندي اليوم (أي ضيافتك). وعندما قدّم الطعام، كف حديثة يده عن الطعام، وقال: لا أقبل أن أتغدى عندك والنوري الشعلان في السجن، قال الوالي: هو كمالة غداءك. وخرج النوري من السجن، وأصبح هو وحديثة الخريشا أصدقاء مثل الإخوان، إلى أن انتقلا إلى رحمة الله تعالى.
ومن صفات الشيخ حديثة الخريشا، رحمه الله، وعيه السياسي خلال تلك الفترة الصعبة من تاريخ الأمة العربية، عندما قامت الدول الغربية باستعمار الدول العربية، وأنشأت الكيان الإسرائيلي في قلب الأمة العربية.
وقد كان للشيخ حديثة موقف بارز من تلك الأحداث، فقد كان عضواً في حزب الاستقلال الذي تأسس عام 1920م، وعضواً في الهيئة التتأسيسية لحزب التضامن الأردني الذي تأسس عام 1933م، وعضواً في اللجنة التنفيذية لمؤتمر الشعب العام، وفي المكتب الدائم له عام 1933م. وقد عزا الشيخ حديثة عجز الأردنيين عن مقاومة المستعمرين إلى الوضع الذي فرضته المعاهدة البريطانية الأردنية عام 1928م، حيث قال (نحن في شرقي الأردن أشبه بمولود جديد تولى الوصي تربيته، فمنع عنه الرضاعة واللباس وأسباب التدفئة والتربية، ثم قال له: عش ونم وخذ نصيبك من مالك وسائر أسياب حياتك)شغلت القضية الفلسطينية أبناء الأمة العربية عموماً، وبني صخر خصوصاً، فقاموا بدورهم، وما تتطلبه منهم وطنيتهم وعروبتهم وإسلامهم، نحو فلسطين. وقد استشهد كثير من أبناء القبيلة وهم يدافعون عن هذه القضية الكبرىوفي عام 1919م، وفي حفل صلح عشائري حضره وجهاء بني صخر وأعيان عشائر البلقاء، تحول الحفل إلى لقاء سياسي أصدروا فيه بياناً تضمن احتجاجهم على الاتفاقيات القاضية بتجزيئه البلاد العربية، وطالبوا برفض الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وعندما دعا الشيخ مثقال الفايز، شيخ مشايخ بني صخر، إلى عقد مؤتمر وطني في أم العمد من أجل التباحث في حال فلسطين في عام 1936م، استجاب عدد كبير من مشايخ العشائر والمواطنين الأردنيين. وبعد كلمة الافتتاح التي ألقاها الشيخ مثقال، ارتجل الشيخ حديثة الخريشا كلمة حماسية، فقوطعت كلمته بالتصفيق الحار عدة مرات. وفي نهاية المؤتمر فتح باب التطوع لمشاركة المجاهدين في فلسطين، وكان أول المتطوعين الشيخ حديثة الخريشا، ونايف حديثة الخريشا، ومجلي كليب الخريشا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن من أوائل من استشهد على أرض فلسطين خالد بن مجلي بن كليب الخريشا، وكان بركات طراد الخريشا قائد سرية للمتطوعين، ورفيفان خالد الخريشا قائد سرية، وغيرهم.
وقد أورد الرحالة سيبروك رأي بني صخر في الحركة الصهيونية ونظرتهم لها على لسان الشيخ حديثة الخريشا بقوله: (إن فلسطين عربية وأرض للعرب، قبل مجيء موسى عليه السلام، وأن مستعمرات اليهود ملك للعرب،سرقوها واستولوا عليها تحت الحماية البريطانية، ولابد من استردادها مستقبلاً).
وأبرق الشيخان مثقال الفايز وحديثة الخريشا برقية إلى المؤتمر الإسلامي الذي عقد في 1928م، أيدا فيها قرارات المؤتمر الرافضة لوعد بلفور والداعية لمقاومة مساعي اليهود الرامية إلى امتلاك حائط البراق.
وقد دفعت مواقف الشيخ حديثة الخريشا الحاسمة، تجاه قضية فلسطين والقضايا العربية الأخرى، السلطات البريطانية إلى إبعاده إلى مناطق بعيدة على الحدود الصحراوية.
تابع الشيخ حديثة الخريشا والقضية الفلسطينية وكان الشيخ حديثة من أبرز المساهمين في السلاح والإمكانيات بواسطة رجاله الذين كانوا يوصلون السلاح… وبالتحديد إلى منطقة القدس. ومن الأشخاص الذي كان الشيخ يرسل لهم المعونات، عبدالرحمن عريقات، أبو كامل عريقات ورشيد عريقات. وكان معظم هذا السلاح يأخذه رجال الشيخ حديثة، ويوصلونه إلى عبدالرحمن عريقات في منطقة أبو دبيس.
ومن الجدير بالذكر أن عدداً من الجمعيات واللجان تشكلت في الأردن لجمع التبرعات لدعم أهالي فلسطين، ومن هذه الجمعيات، جمعية نساء البدو التي جمعت بعض الأموال وأرسلتها إلى لجنة السيدات العربيات في القدس. وقد مكث الشيخ أمين الحسيني عدة أشهر في أم العمد والقسطل في ضيافة الشيخ محمد الفايز.
وكان الشيخ حديثة من أبرز المساندين للثوار العرب في سوريا ضد الاستعمار الفرنسي، سواءً بالامكانيات أو الرجال أو الدعم السياسي. ومن المعروف أن منطقة الأزرق في الأردن، وهي منطقة مضارب الخرشان في الشتاء، احتضنت الكثير من الدروز أبناء جبل العرب الذين ضايقهم الاستعمار الفرنسي، فنزحوا إلى الشيخ حديثة في الأزرق، وهو الذي حدد لهم مكان السكن هناك.
وقدم الشيخ حديثة الكثير من الدعم للثوار السوريين الذين كانت فرنسا تطاردهم. ومن هؤلاء شكري القوتلي وفوزي قاوقجي وغيرهم ممن حكمت عليهم فرنسا بالإعدام. هؤلاء لجأوا إلى الشيخ حديثة في الموقر، وبقوا شهراً كاملاً في الموقر بالرغم من خطورة ذلك على الشيخ حديثة، ولكن وطنيته ووفاءه وأخلاقه العربية لم تجعله يتوانى عن تقديم الدعم إلى هؤلاء الرجال وقدم لهم السكن والمعيشة. وعندما اكتشف الإنجليز وجود هؤلاء الرجال عند الشيخ حديثة (وذلك أيام الانتداب الإنجليزي في شرقي الأردن) جرت المحاولات لتسليمهم لفرنسا، فعلم الشيخ حديثة بذلك فقام بتهريبهم إلى مناطق أخرى في الدول المجاورة عن طريق ابنه علي.
وفي عام 1926م جرى صلح عشائري بين بني صخر والحويطات، وبعد اتمام الصلح طالب الشيوخ بوقف فضائع الفرنسيين في سوريا. وفي الحال أبدى فريدريك بيك استياءه من هذه المطالبة وقال (إن صلحاً كهذا يضرنا ولاينفعنا، وإن السياسة الحكيمة التي يجب على كل حكومة انتهاجها في بلد كالمشرق العربي، هي التفريق بين العشائر، وذلك لأن في اتحادها إزعاجاً لبريطانيا بسبب كثرة طلباتها.
وعندما حاول فريدريك بيك إلقاء القبض على أحمد مريود، وهو المتهم بتدبير عملية محاولة اغتيال الجنرال غورو قائد القوات الفرنسية في سوريا، قامت مظاهرات في عمان شارك فيها كل من مثقال الفايز وحديثة الخريشا، فما كان من السلطات البريطانية إلا أن اتهمتهم وحزب الاستقلال بالتخطيط لتحريك البدو للوقوف إلى جانبهم.
من صفات الشيخ حديثة كرمه الواسع، وقد نقلت آنفاً ما وصفه به الرحالة سيبروك. وقد كان تجار نجد (العقيلات) يقدمون إلى سوريا وفلسطين ومصر للتجارة. وعندما يقدمون إلى الأردن كانوا يمرون بحديثة الخريشا وينزلون في ضيافته، وكان ينزل على الطرق يقدم لهم المعيشة. ومن القصص التي تدل على كرم الشيخ حديثة وعلو خلقه، أنه كان في الموقر، وكان الحلال عنده قليلاً (40 شاة فقط)، وفي ليلة واحدة نزل في ضيافته في منتصف الليل أربعون فارساً من جبل الدروز، وعندما وصولوا خشوا أن يقوم حديثة بواجب الضيافة في نصف الليل، فقال لهم (تأكدوا أنه ما فيه شيء). ولكنه ذبح تسعة من الغنم، وقدم لهم واجب الضيافة. وفي نهاية الليل، وكانت الوحوش متواجدة في المنطقة فأكلت ما تبقى عنده من الحلال. ولما علم الشيخ حديثة، قال (عشيت الوحش والإنسان، ولكن حظي كبير لأنني عشيت ضيوفي بالأول). وهذه القصة حدثت عام 1925م بالصيف، وكان الخرشان يهمهم تقديم الواجب، وكانوا دائماً للضيف، وتقديم الواجب له.
ومن صفات الشيخ حديثة الخريشا قدرته التفاوضية وسداد آرائه، ولذلك كان من أقرب المقربين من الأمير عبدالله بن الحسين رحمه الله تعالى، وكانت العلاقة بينهما قوية ومتينة، ويصعب على الإنسان معرفة ماذا كان يتم بينهما.
وكان الشيخ حديثة من أقرب الناس سنداً للأمير عبدالله فيما يواجهه من مصاعب. ومن ذلك أن الأردن كان محكوماً من قبل الانتداب الإنجليزي بمبلغ مائة ألف جنيه ذهب، وذلك بسبب أخذ بعض العشائر الأرنية بعض الحلال من العشائر السورية إضافة إلى غرامات أخرى. وهذا الدين كان من الصعب سداده، إلا أن الأمير عبدالله أوفد الشيخ حديثة إلى مؤتمر عشائري كان يعقد عادة في درعا، وطلب من الشيخ حيثة أن يرأس المؤتمر. واستطاع الشيخ حديثة بالحنكة والمعرفة والمفاوضة أن يكسب مائة ألف جنيه (إضافة إلى المائة ألف جنيه سداد الدين). وكان رئيس المؤتمر من العشائر السورية الشيخ نوري الشعلان رحمه الله تعالى.
وقد شارك الشيخ حديثة في مؤتمرات أخرى للصلح بين العشائر، ومنها اجتماع للصلح العشائري في مدينة درعا كان بإشراف كلوب باشا وممثل السلطات الفرنسية في سوريا، حيث أجمع الحاضرون من بني صخر والحويطات والجبلية والعشائر السورية على مبدأ (الحفار والدفان) لكل ما مضى من صراعات وقتلى وغزوات. وقد حضر الاجتماع عدد من شيوخ القبائل في سوريا والأردن، منهم النوري بن شعلان شيخ عشائر الرولة، وعودة بن سرور شيخ عشائر أهل الجبل، وملوح بن عنيزان شيخ عشائر الشرفات، وطراد بن جندل شيخ الموالي، وفرحان بن معجل شيخ الأشاجعة، وابن سمير شيخ الولد علي، ومثقال الفايز وعضوب الزبن ومحمد الزهير وحديثة الخريشا من شيوخ عشائر بني صخر.
ومن القصص التي تروى عن الشيخ حديثة أنه قدّم طلبا للانضمام لجمعية الاتحاد والترقي التي كانت في بداياتها تطالب السلطان العثماني بالإصلاح الدستوري ورفع الظلم عن الولايات العثمانية. وكانت آنذاك جمعية سرية تناوىء السلطان عبد الحميد ، وتضم نخبة من أحرار ومفكري البلاد العربية وسائر انحاء السلطنة العثمانية. قبلت الجمعية طلب الشيخ حديثة ، ودعته إلى تأدية اليمين المفروضة على طالبي الانضمام اليها ، حيث طلب رئيس الجلسة ان تعصب عينا الشيخ حديثة ، وان يضع يده على القرآن الكريم ويردد عبارات القسم التي يتولى احد الأعضاء تلاوتها ، رفض الشيخ حديثة ان تُعصب عيناه وقال: – أنا طلبت الانضمام إلى جمعية الاتحاد والترقي ، فهل يكون الاتحاد والترقي على(العمياني) ، ام على نور الهداية؟ تشاور الأعضاء ، وقبلوا بصورة استثنائية ان يقسم الشيخ وهو مفتوح العينين ، ثم رفض الشيخ ان يضع يده على القرآن الكريم ويردد القسم الخاص بالجمعية ، والذي ينص على الوفاء لها والاستعداد التام للتقيد بقراراتها ، وتنفيذ أوامر قادتها ، وطلب منهم ان يسمحوا له بأداء القسم على طريقته الخاصة ، فتداول الأعضاء فيما بينهم وقالوا ، بما معناه ، انه بدوي اعرابي لا يفهم المنطق ولا يؤمن بالأنظمة والقوانين ، فلندعه يقسم كما يشاء ، وقف الشيخ وتلا قسمه قائلا:يا قوم ، ان صدقتم صدقنا ، وان بقتم بقنا (يقصد ان خنتم صار لنا الحق بخيانتكم). وما هي الا سنوات حتى انحرفت الجمعية عن مبادئها الأولى ، وصارت تدعو إلى تتريك البلاد العربية ، فصدق احساس الشيخ الذي رفض ان يقسم بالاخلاص ، الا بطريقته التي ربطت مدى التزامهم مع العرب بمدى التزامه معهم ، وبالتالي صار الشيخ في حل منهم ولم يحنث بيمينه ، ووقف ضدهم إلى جانب الثورات الشعبية التي انطلقت آنذاك.
ومن الجدير بالذكر أن الشيخ حديثة، ومع سعة أفقه وذكائه الحاد وسداد آرائه السياسية والاجتماعية مما جعله مشاركاً رئيساً في الكثير من مؤتمرات الصلح العشائري وإصلاح ذات البين، إلا أنه لم يكن يتردد في استشارة بعض المقربين منه لأنه كان يعلم أنه قليل بنفسه كثير بإخوانه. ولذلك كان يستشير كبار الخرشان، مثل عمه سطعان الخريشا. وكان يستشير صالح الخريشا وعرقوب الخريشا، وكلهم أعمامه وإخوانه. وكانوا يقدمون له الرأي، وكانوا سنداً للشيخ حيثة، وهو كان سنداً لهم.
ومن جهود الشيخ حديثة أنه شارك مع بعض شيوخ بني صخر في وضع اتفاقية تحدد الخطوط الفاصلة ما بين واجهات عشائر بني صخر عن بعضها البعض، تفادياً لوقوع خلافات بين أبناء القبيلة، وحفظاً لحقوقهم، وذلك في عام 1945م حيث أخذ توزيع الأراضي بعداً جديداً شمل نوعين من الأرض هي المجاورة للصحراء شرقي أراضي الطور، وأراضي الجلد السماة أراضي المراعي أو الأراضي الشرقية. وقد جاء هذا التقسيم ضمن وثيقة مكتوبة مؤرخة في 4/12/1945م، ووافق عليها شيوخ بني صخر، وتم تحت إشراف الدولة، وقد جاء هذا التحديد بمباركة السلطات الرسمية والعشائرية.
ذكر الشيخ شايش الخريشا هذه القصة التي حدثت لجدّه الشيخ حديثة الخريشا.قتل الشيخ حديثة رجلا من قبيلة عنزة، وفات على ذلك وقت طويل، ثم قدر له أن يخرج إلى الصيد، ومعه الصقر وبعض الشبابفطار «الصقر» وغاب وطال انتظاره ولم يعد، واستمرت عملية البحث عنه في شعاب الصحراء حتى أخذ العطش منهم مأخذا عظيما، وتراءى لهم عن بعد بيوت من الشعر، فقال الشيخ حديثة أمكثوا هنا حتى آتي لكم بالماء.
وكانت المفاجأة عند اقتراب الشيخ حديثة من بيوت الشعر وقوله السلام عليكم، أن قام إليه رجلان، وأمسكا بزمام فرسه وقالا له: تفضل ياحديثه، فقال مذهولاً: مَن حديثه؟، أنا رجل عابر سبيل، أريد الماء، ولكن الرجال كانوا يتصرفون على وجهٍ يوحي بالثقة، ثم أتوا بمن كانوا معه أيضاً.
وهنا سأل الشيخ حديثة القوم عن سبب هذا الاعتقال، فقالوا له: أنت قتلت رجلاً منا! فأنكر الشيخ هذا الاتهام على وجه السرعة، ولكنهم لم يكثروا الجدال وقالوا المسألة بسيطة، نريد منك أن تتوجه إلى القبلة، وأن تقسم بالله العظيم أنك ما قتلته، ولقنه الرجل كيفية القسم: قل: «والله العظيم ما شققت له جلداً، ولا أهرقت له دما» .. وفي هذه اللحظة الحرجة توجه الشيخ حديثة نحو القبلة وأقسم قائلا: والله العظيم، أنا الذي رميت، والله هو الذي قتلوهنا وقف القوم جميعا في لحظة صمت، مصحوبة بالتهليل والقلوب تخفق، وكانت المفاجأة الكبيرة أن أصحاب البيت هم أهل القتيل، وبادروا بالعفو، وأطلقوا سراحه إحساناً، لله ولرسوله، بعد هذا الاعتراف.
هذه الحادثة تعيد الإنسان إلى عالم الأخلاق الفاضلة، الذي تظهر فيه قيم الصدق، ومعاني الرجولة. لم يكذب الشيخ حديثة لينجو من الموت الذي كان محققاً، وآثر الصدق والاعتراف بهذا الأسلوب الرائع. وهذه الحادثة تذكرنا أيضاً بشرف الخصومة، وأسلوب التعامل عندما نختلف، ويشتد الحوار وتعلو الأصوات، ويغلظ القول.
وما أروع موقف أهل القتيل حينما عفوا وصفحوا، لأنهم رأوا من الشيخ حديثة صدق اللهجة