لا شك ان مناخات التسامح والإخاء والعيش الآمن والتعايش المشترك الذي يجمع الأردنيين إنما هو نتاج حكمة هاشمية وبُعد نظر القيادة الفذة وقراءتها العميقة للتاريخ والجغرافيا، وحرص الأردنيين على تكريس نموذج المحبة والإخاء والتسامح، وهم يحترمون الإنسان ومعتقداته، وقد أخذوا على أنفسهم عهودا لا تتبدل أو تتغير، بأن ينبذوا العنف والتعصب وأن يكونوا دعاة خير ومحبة، وعدم الإساءة للأديان والمعتقدات أو الحّط من شأنها، فهم على قناعة مطلقة بأن الدين لله وحده، أما الوطن فهو للجميع.
وهنا نسرد حادثة جميلة وطريفة ومعبرة، تستحق أن تُدوّن في تاريخ عشائر العبيدات الكريمة في شمال القلب والوطن، لتضاف إلى سجل مكارمهم و مواقفهم المشرفة التي تدل على أصالة أهلنا وسماحتهم وطيبتهم وقبولهم للآخرين و وسطيتهم وحرصهم على أماكن العبادة للمؤمنين من أتباع الديانات كلها.
تشير المعلومة الى انه وفي مطلع القرن الحادي والعشرين حضر المطران جورج المرّ "ممثل بابا الفاتيكان" من مادبا بسيارة دفع رباعي وبصحبته ونش وبكب ديانا الى بلدة الرفيد في الشمال حيث الكنيسة المهجورة بسبب هجرة إخواننا المسيحيين الطوعية الى مشارق الأرض و مغاربها، ثم قام بفك جرس الكنيسة الضخم، وبعدها وضعه في سيارة الشحن مع بعض موجودات الكنيسة.
حدث ذلك أمام بعض رجال البلدة، دون أن يتدخل أحد بالأمر احتراما وتقديرا للمطران وصحبه، فهو صاحب الأمر والنهي، وهو صاحب الولاية الدينية على تلك الكنيسة، وقد وصل الخبر الى مسامع السيد يوسف القفطان العبيدات "أبو معن" المعروف بنباهته وفطنته وحبه لأهله وجيرانه، وكرهه الشديد للغُبن والظلم، فاعترض طريق المطران، على مخرج قرية الرفيد بجانب بيت المرحوم سليمان الكايد العبيدات، وطلب منه إعادة الجرس الى مكانه، لكن المطران رفض ذلك.. وقال لأبي معن : أنا المطران جورج المر ممثل بابا الفاتيكان وصاحب القرار في نقل جرس الكنيسة، فأجابه أبو معن : وأنا يوسف المر ممثل عشيرة العبيدات وصاحب القرار بإعادة الجرس الى مكانه في كنيستنا، فقد كنت أدقه وأنا طفل صغير وكنت أخشع على صوت رناته وهو إرث وطني وجزء منّا و من كنيستنا.
رفض المطران ذلك، فهدّده يوسف القفطان بالشكوى لدى المحكمة، إلا أن المطران لم يكترث، وتابع مسيره نحو مدينة مادبا.
وعلى إثر ذلك تقدم أبومعن لدى القاضي أبو عيد قاضي محكمة صلح بني كنانة بشكوى موضوعها السرقة، وأودع الشكوى لدى رئيس الكتاب يومها السيد محي الدين الدقامسه، فتم التعميم على المطران، وصدرت بحقه مذكرة جلب، حاول الكثير من الأصدقاء والأقارب التوسط لإسقاط الدعوى، على أن يعود الجرس الى مكانه، لكن المشتكي رفض ذلك، عندها لم يجد المطران حورج المر بدا من المثول أمام هيئة المحكمة أمام القاضي أبو عيد ومعه الجرس، عندها طلب القاضي من أبي معن أن يوقع على إستلام الجرس، رفض أبو معن أن يوقع قائلا للقاضي: هناك شيء أخر، سأله القاضي : وماذا بعد؟.. فقال: هناك الصليب ياسيدي القاضي، فاستشاط المطران غضبا وقال : يا أخي انت بدك تصلي بالكنيسة؟.. ثم تعهد المطران بإعادة الصليب في اليوم التالي لأنه بقي في السيارة التي نقلت الجرس الى مادبا، وبعد أن وقّع المطران على التعهد بإعادة الصليب، قال القاضي لأبي معن: والآن يا سيد يوسف هل بقي شيء آخر لكنيستك؟.. فقال يوسف: نعم.. بقي الحبل يا سيدي القاضي.. عندها أخرج القاضي من جيبه عشرة دنانير وقال : خذ هذه العشرة دنانير ثمنا للحبل، إذهب واشتريه من السوق.
خرج الجميع من قاعة المحكمة، فقابلهم على بابها أحد الخوارنة و معه عدد من رجال الدين المسيحي الذين سمعوا بالخبر، عانقوا أبا معن مشيدين بموقفه شاكرين له ولعشيرته حرصهم وحبهم وغيرتهم على كنيسة الرفيد التي حظيت بعدها باهتمام بالغ وصيانة وحراسة، بأمر من بابا الفاتيكان الذي خصص لها مبالغ وفيرة ليعيد لها الحياة و النبض من جديد و ليبقى اسم الرب مباركا و اسم الاردن خالدا وطنا للمحبة والتسامح والإخاء..