تمّرُ علينا أحيانا جملا أو تعابيراً دون أن نتفحصها أو نمحِّصها أو نقف عندها. فمن أقوال السيد المسيح قوله في الموعظة على الجبل عن الملح الذي يفسد أنه لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يطرح خارجا ويداس من الناس.
واضح من هذا المقطع الإنجيلي أن السيد المسيح يريد من البشرية أن تكون نافعة وصالحة ومفيدة في مجتمعاتها ومساهمة في صنع الخير وفي عمل الرحمة وفي أعمال المحبة وشريكة في صنع التنمية والنهضة المستدامة التي تعود بالفائدة على جميع الناس دون إستثناء، فتكون بذلك شبيهه بالملح النقي البلوري الناصع البياض الذي يجعل للطعام مذاقاً رائعاً والقادر أن يحفظ المواد من الفساد والتعفّن.
وهكذا حياتنا نحن اليوم يجب أن نقيسها بهذا المعيار الهام. فإما أن تتسم حياتنا بقيمة الملح الضروري في الحياة أو لا قيمة لوجودنا ولا معنى لها، فوجودنا يصبح مجرد رقم لا يقدم ولا يؤخر، فنكون كصفر على شمال الرقم واحد لا نقدم ولا نؤخر، لا صفراً على اليمين يزيد الرقم واحد منزلة جديدة إبتداء من خانة الآحاد إلى خانة المئات إلى خانة الألوف إلى خانة عشرات الأولوف وما إلى ذلك.
فالإنسان لا يقاس اليوم بعدد السنين التي يحياها بل بنوعية حياته وبما يؤلفه من كتب وبما ينجزه حقاً في حياته من مساهمة حقيقية فكرية وثقافية وإنسانية وروحية وعلمية وفنية في كشف أسرار هذا الكون الممتد والواسع، وتقديم الأفكار والرؤى والتطلعات القادرة أن تبحر فينا إلى شواطئ الإنجازات والإختراعات والمكتشفات الحديثة التي تسهم بمجملها في خدمة الحياة البشرية والحفاظ على هذا الكون وهذه الطبيعة الخلاّبة التي هي نعم من نعم الله علينا.
لهذا وجب علينا أن نكون ملحاً صالحاً لا فاسدا، فنكتسب قيمتنا الحقيقية ومنزلتنا السامية ونرتقي إلى المجد الحقيقي الذي لا يفنى ولا يزول، ولهذا أيضاً وجب علينا أن نكون كنور يوضع على المنارة. فالنور يزيل العتمة ويظهر الحقيقة وينير الدروب ويفتح الأعين ويكشف المستور ويُعرّي الظلم ويدين القهر وينبذ الإستبداد وينوّر العقول لترى الحقيقة غير مجتزأة وغير مبتورة. عندها نكون خير الناس للناس بحسب الحديث النبوي الشريف (خير الناس أنفعهم للناس).
ما يُداس تحت الأقدام هو ما لا يصلح بعد لشيء، وأما منزلتنا فهي المكان الحقيقي الذي نستحق أن نوجد فيه.