عبيدات يكتب .. "حبراص: أصل الاسم وعلاقته بالمثل الشعبي 'شيلة حبارصة '
نيروز – بقلم الكاتب والإعلامي محمد محسن
عبيدات
في أقصى الشمال الأردني، حيث تتكئ الجغرافيا
على التاريخ، وتتشابك الحكاية مع الذاكرة، تتربع قرية حبراص كإحدى قرى بلدية الكفارات
في لواء بني كنانة، شاهدةً على إرث اجتماعي وثقافي عميق، ما زالت ملامحه حاضرة في الوجدان
الجمعي لأبنائها، وفي الروايات التي تتناقلها الألسن جيلاً بعد جيل.
حبراص… اسمٌ تحوّل إلى حكاية
تعددت الروايات حول تسمية حبراص، غير أن الرواية
الأكثر تداولاً بين العامة، والأقرب إلى الذاكرة الشعبية، ترتبط بشخصية فريدة جمعت
بين الحكمة والمعرفة والهيبة الاجتماعية. فقد عُرف في المنطقة رجلٌ صاحب مقام، وقاضٍ
عشائري، يُحتكم إليه في الخصومات، ويُرجع إليه في الملمات، لما امتاز به من عدالة ورجاحة
عقل وسعة علم، إلى جانب كرمٍ أصيل كان عنوان مجلسه المفتوح للقاصي والداني.
وبحكم الموقع الجغرافي لحبراص، التي تتوسط
عدداً من المناطق والقرى، كانت محطةً طبيعية للمارة والزوار. فكان القادمون يقصدون
هذا الشيخ، لا بدافع العادة فقط، بل بدافع التقدير والاحترام؛ يقبّلون يده ورأسه، ويجلسون
في مجلسه العامر، ينهلون من معين حكمته، ويستظلون بظل معرفته، ويغادرون وقد أثقلتهم
القيم قبل الضيافة.
مجلس الحكمة وملتقى الناس
تحوّل مجلس الشيخ إلى ما يشبه مدرسة اجتماعية
مفتوحة، تُتداول فيها شؤون الناس، وتُحل فيها الخلافات، وتُصاغ فيها ملامح السلم الاجتماعي.
لم يكن مجلساً مغلقاً أو نخبوياً، بل فضاءً رحباً يتسع للجميع، تُصان فيه الكرامة،
ويُقدّم فيه الاحترام قبل القهوة، والحكمة قبل الحكم.
ومع مرور الزمن، ارتبط اسم المكان بتلك الشخصية
الجامعة، حتى غدا اسم حبراص دالاً على معنى أعمق من مجرد موقع جغرافي؛ صار رمزاً للمكان
الذي يُقصد، وللإنسان الذي يُزار، وللقيم التي تُحترم.
"شيلة حبارصة”… مثلٌ وذاكرة
ومن رحم تلك الحكاية، وُلد المثل الشعبي الشهير
"شيلة حبارصة”، الذي ما زال متداولاً حتى يومنا هذا، حاملاً دلالة اجتماعية راقية.
ويعود هذا المثل إلى عادةٍ تميّزت بها جولات ذلك الشيخ؛ إذ كان إذا زار أحدهم، ونهض
للمغادرة، نهض معه جميع من في المجلس، وخرجوا برفقته.
لم تكن تلك العادة مجرّد حركة جماعية، بل
سلوكاً أخلاقياً عميق المعنى؛ فهي تعبير عن الاحترام لشخص الشيخ، وعن روح الجماعة،
وعن التخفيف على المعزّب، كي لا يُثقل عليه بكثرة الجالسين بعد مغادرة الضيف الكبير.
وهكذا تحولت "الشيلة” إلى رمز للتكافل، والتقدير، والانضباط الاجتماعي، حتى صارت مثلاً
يُضرب في المواقف التي يتقدّم فيها الجمع احتراماً للرمز.
حبراص اليوم… امتداد الروح
ورغم تغير الأزمنة، وتبدل أنماط الحياة، ما
زالت حبراص تحتفظ بروحها الأصيلة، وتستحضر تلك القيم في تفاصيلها اليومية، وفي سلوك
أبنائها، وفي حضورها الاجتماعي والثقافي. فهي قرية لم تنفصل عن جذورها، ولم تنسَ حكاياتها،
بل حملتها معها كزادٍ للهوية، وعنوانٍ للانتماء.
إن الحديث عن حبراص ليس مجرد سردٍ لمعلومة
تاريخية، بل هو استدعاء لذاكرة مكان، ولحكمة إنسان، ولثقافة مجتمع آمن بأن القيم هي
التي تصنع القرى، قبل البيوت، وتصون الأسماء، قبل الخرائط.