ربما من المستغرب أن تُبنى كنائس في الخليج العربي، الأمر الذي لم نَعْتَدْ عليه ولم نتعود عليه؟ فهل هذا يشكل تحدياً أم تهديداً؟ ربما، لكن ليس في نفوسنا نحن المؤمنين المعتدلين، الذين نؤمن بسماحة الأديان وإنفتاحها على بعضها البعض لأنَّ جوهرَ دعوتها أن توحِّدَ قلوبَ الناس وتوجِّهُهَا إلى الخالق رغم التباين في العقائد الطقوس والشعائر والممارسات. وتبقى هذه المواضيع خاضعةً للحوار الهادئ العقلاني الأكاديمي المنفتح، الذي يسهم على تقبل الآخر والبحث في الجوهر لا التركز على القشور. ففي الحياة هناك طرق متعددة، ولكن الأهم أن توصلنا إلى هدفنا وغايتنا وهي إتحاد أرواحنا مع الله، والإرتقاء بها نحو السماء لتعانق خالقها، وأن تكون دائماً بجوارٍ منه فتنال أبلغ درجات السعادة.
الصراع الدائر في عالمنا اليوم هو ليس بين المسلمين والمسيحين واليهود كأديان، بل الصراع هو بين المعتدلين من أتباع هذه الأديان التوحيدية من جهة وبين المتطرفين منهم من جهة أخرى، الذي يكفِّرون حتى أتباع الدين الواحد، الذين لا ينسجمون مع فكرهم وعقيدتهم ومنهجهم وممارساتهم.
هذا هو الخطر الحقيقي الذي يواجه مشرقنا العربي لا وبل العالم أجمع. إجمالاً من منَّا قد اختار الدين الذي يقوم عليه؟ وهنا لا أقلِّل من قدر قناعة الفرد وحريته في اختيار الدين والعقيدة التي يؤمن ويقتنع بها، ولكن الغالبية العظمى منّا قد وُلدت ونشأت وترعرت في حضن تعاليم دينية معينة وممارسات أصبحت مع الزمن تشكّل ركناً أساسيا في حياة الفرد وهُويته مما يصعب نزعه منها.
ولذلك العبث بالأمن والنسيج المجتمعي اليوم يعد من أخطر أنواع التحديات التي تتعرض لها بلادنا المشرقية، وهي ورقة قد يتم استخدامها لضرب النسيج الوطني والوحدة الوطنية. هذا لا يعني مرة أخرى المسّ بمفهوم حرية الأديان في ممارسة شعائرها وطقوسها والبشارة أو الدعوة إلى ما تؤمن به بالحكمة والموعظة الحسنة، لكن أبداً لا يجب أن يكون الدين سبب نزاعٍ واقتالٍ وتفسيحٍ للمجتمعات، بل عاملّ محبةٍ وووحدة في الأوطان والمناداة بصوت الحق الإلهي الذي يدعونا لأنْ نعلِّيَ أجملَ القيمِ وأَسمَاها ونجمعَ القلوب ونوحدَها في عبادة الله مهما اختلفت طرقنا وممارساتنا، وبالأكثر أن يرى الواحد منا الله في الأخر، وبأن الآخر هو شريك في الإنسانية وفي الوطن وفي التعاون على البّر والتقوى ومحاربةِ كلَّ أشكال الفساد والتصدي لكافة الإنتهاكات التي تطال حياة وحرية الإنسان، ومناهضة كل أشكال التمييز بين الرجل والمرأة والتفرقة العنصرية، وكل أنواع العف ضد الأطفال أو الإتجار بالبشر أو تلويث البيئة واستغلال مصادرها الطبيعية.
دُشنت يوم أمس الجمعة 9/12/2021 في البحرين كنيسة " سيدة الجزيرة العربية" تحت رعاية ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة لتُفتحَ صفحةٌ من صفحات جديدة في الخليج العربي في الإنفتاح على الآخر وتقبُّلِهِ واحترامه والتعايش معه مهما اختلف في الدين أو العقيدة. وسبق أن سمحَ الفاتيكان ببناء جامع كبير بقرب من المقَّر الرسولي في الفاتيكان تعبيراً عن الحرية الدينية التي يؤمن بها وبوجوب الحق لكل إنسان في العبادة والصلاة.
بناء كنيسة بهذا الحجم وهذه الصخامة تتسع ل- 2400 مصلّي إنما هي رسالة قوية يقدمها الخليج العربي بأنّ هذه البلاد العربية إنما تتمسك بجوهر تعاليم الإٍسلام السمحة الذي شرحته رسالة عمان عام 2004 بأن الإسلام دين منفتح على الآخرين ويقبل بالتعددية وبالحوار وبتعلية الروح الإنسانية التي تجمع جميع بني البشر رغمَ اختلف أجناسهم وأديانهم ولغاتهم وألوانهم وأطيافهم وطوائفهم. فالبيت الإنساني هو جامع لكل الإنسانية المدعوة أن تبحث معاً عن طريق الحق والحياة، وأن تتعلم من بعضها البعض كيف ترضي الله وتفّرح قلبه. لذلك فإننا ننظر بعين الإكبار لكل إنسان يدعو اللهَ بقلبه ويسعى لمرضاته ويبحث عنه " فالله قريب لكل الذين يدعونه الذي يدعونه بالحق" (مز 18:145)، "وسّر الرب لخائفيه" (مز 14:25) أي أنَّ الله يظهرُ ذاتَه لمتقيه.
"سيدة الجزيرة العربية" كنيسة منسوبة إلى أم الكنيسة العذارء البتول مريم التي حَبِلت من الروح القدس من غير أن يمسَّها رجل، ومكرّمة لدى الكنيسة المسيحية ومطوّبة على مدى الأجيال، وقد خصص لها القرآن الكريم سورة كاملة هي سورة مريم. فكيف لا تكون العذراء مريم سيدة الجزيرة العربية لا بل على العالم أجمع، لأنها ولدَت النور الإلهي الذي يشّع نوراً في عتمة هذا العالم ومحبة وخدمة وتضحية وفداء.
بناء وتدشين كنيسة " سيدة الجزيرة العربية" في البحرين بركةً كبيرةً سَتّجر خلفَها العديد من البركات على صعيد الإنسانية وحبّ الجار وبناء الأوطان.