أرى من وجهة نظر خاصة ، أن الحرب الروسية على أوكرانيا هي بمثابة لعب الأدوار بين أمريكا والغرب من جهة ، وروسيا من جهة أخرى ، رغم ما صرح به الرئيس بوتين للشعب الروسي ، بإن هدفه هو "نزع السلاح من أوكرانيا واجتثاث النازية منها"، لحماية أولئك الذين تعرضوا لما وصفه بـ 8 سنوات من التنمر والإبادة الجماعية من قبل الحكومة الأوكرانية على حد قوله ، إلا أنني صراحة اشكك فيما ذهب إليه الرئيس الروسي من تصريح ، فالكل يعلم أنه منذ مجيء بوتين للسلطة، و هو يسعى لإعادة أمجاد الإتحاد السوفيتي و قد عبرت عن ذلك المسعى و الدور في مقالة كتبتها قبل( ٩ ) سنوات ، تحديدا في عام (٢٠١٣) بعنوان (الدب الروسي والحلم القديم ) كما يظهر بالصورة المرفقة مع المقالة أدناه، وباستطاعتكم العودة إليها في أرشيف مقالاتي عبر مواقع إخبارية على الصفحة العنكبوتية، حيث أوضحت فيها أن روسيا تسعى إلى إعادة الأمجاد السوفيتية ،و أحياء ما يسمى (القطب الثاني ) الذي كان زمن الحرب الباردة ، مناصفة مع الولايات المتحدة الأمريكية .
و دعوني أيها السادة ، اقتبس لكم فقرة من تلك المقالة التي كتبتها إبان ما يعرف بالربيع العربي في سوريا (الثورة السورية) و ما تخمض عن تلك الحقبة من تدخل عسكري روسي في النزاع في سوريا لصالح حليفها النظام السوري في ذلك الوقت و مازال.
اقتبس " أن روسيا والتي كان يعتقد سابقا بأنها أصبحت فاقدة لدورها المحوري والاستراتيجي والسياسي نجد أنها عادت إلى ذلك الدور الحيوي والاستراتيجي والسياسي من جديد من نافذة الأزمة السورية، لا بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فقد رأى المحللون السياسيون بما لا يدعو مجالا للشك بأن القطب الثاني الموازي للقطب الأمريكي قد أُعيد بناؤه من خلال ما قامت به الدبلوماسية الروسية من الإتفاق الأخير، والذي عمل على إفشال المساعي الدولية؛ لتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري، معتبرين بأن القطب الثاني في طريقه للظهور مرة أخرى لكن ليس بذلك الزخم السياسي والعسكري للإتحاد السوفييتي سابقا" ، إنتهى الاقتباس .
فروسيا من جهة، تمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية قادرة لا - سمح الله - على محو العالم، ومن جهة أخرى ما يمتلكه الناتو و أمريكا من ترسانة نووية قادرة على محو العالم لمرات عدة، و هذا هو السيناريو الخطير في الحرب الروسية على أوكرانيا ، لاسيما حالة الإحباط التي يعانيها الجيش الروسي في أوكرانيا مع تهديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالأسلحة النووية وإصداره الأوامر لجيشه بوضع أسلحته النووية و الاستراتيجية في حالة تأهب قصوى، و التلويح باستخدام هذه الأسلحة، ردا على ما أسماه بتدخلات الناتو و تهديده للدولة الروسية من خلال ما عبر عنه الناتو من استياء غير مسبوق لحظة الهجوم الروسي على أوكرانيا و صفقات السلاح التي يوردها الناتو للاوكرانيين قبل وأثناء الحرب المستعرة، مع أن الناتو اعلنها صراحة أنه لن يتدخل عسكريا في أوكرانيا .
و رغم مناشدات الرئيس الأوكراني لحلف الناتو (فولوديمير زيلينسكي ) وتوسلاته لقادته بالقيام بدعم أوكرانيا عسكريا من خلال إقامة منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، الأمر الذي يرفضه الحلف، لما له من عواقب خطيرة في حالة تنفيذه، و قد يتسبب بحرب نووية مدمرة لكل الأطراف، و هذا ما عبر عنه الحلف مرارا ، فإقامة منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا من قبل الحلف، يتضمن إسقاط الطائرات الروسية المعادية ، و مواجهة مباشرة مع روسيا ، وحرب لربما تصل لاستخدام الأسلحة النووية من كلا الطرفين ، و هذا ما لا يريده الحلف و لا حتى الروس و لا حتى العالم ، مع أن المحللين والخبراء يستبعدون هذا السيناريو المرعب لأن هذا الصراع، أن حدث -لاسمح الله- سيكون القشة التي سوف تكسر (ظهر البعير) إن جاز التعبير .
إلا أنني يا سادة ، أرى أن مجرد التلويح باستخدامه و أن كان من محض الصدفة و التهديد والتخويف ، إلا أنني أرى فيه بمثابة السيناريو المرعب الذي ينتظر العالم ، لا سيما مع استمرار تهديدات كل طرف من النزاع (روسيا -الناتو ) و الحشد العسكري الذي يقوم به الناتو و أمريكا في الدول التابعة لحلف الناتو الملاصقة للحدود الروسية وصفقات السلاح التي يرسلها دول الحلف و أمريكا إلى كييف .
في المقابل ، يرسم الخبراء سيناريوهات مخيفة إن جاز التعبير ،لصراع القوة المفتوح بين الغرب وروسيا، وهي تترواح بين سيناريو حرب واسعة أو محدودة، وسيناريو استمرار التوتر الحاد، وسيناريو اتجاه الأزمة نحو الانفراج بناء على تسوية مؤقتة أو بعيدة المدى، خاصة بعد تصريحات اليوم الإثنين التي أطلقت من تركيا التي تحاول جاهدة لعب دورا بارزا في الصراع ما بين الدولتين، لما تحظى به تركيا من وسيط محايد إذا ما أخذنا بعين الاعتبار إتخاذ الأتراك موقف المحايد من الازمة، رغم موقف الأخيرة في مجلس الأمن والأمم المتحدة الرافض للتدخل العسكري في أوكرانيا ، إلا أن الموقف التركي يختلف كثيرا عن الموقف الأمريكي و الغربي الداعم عسكريا و اقتصاديا للأوكرانيين من خلال ما تقوم به من تزويد كييف بصفقات الأسلحة دون الإشتراك علنا في أي مواجهة مع الروس ، فكل من أمريكا ودول الغرب وحتى روسيا تدرك مخاطر التدخل العسكري للناتو في أوكرانيا الذي لربما سوف يقود إلى عواقب و خيمة و حرب عالمية طاحنة لا تعرف أبعادها ،خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار القوة النووية المدمرة للأطراف المتعلقة بالحرب الأوكرانية الروسية.
بيد أن ما يلفت النظر في خضم تطورات الأزمة الأوكرانية، ظهور أبعاد جديدة في المواجهة بين الغرب وروسيا والتي تعتبر الأشد من نوعها منذ سقوط جدار برلين قبل ما يزيد عن ثلاثين عاما، فرغم هيمنة الحضور العسكري بمقوماته التقليدية، إلا أن خبراء يرصدون ظهور عناصر جديدة في الصراع، وهي مستمدة من التطورات التكنولوجية والسيبرانية ونوعية جديدة من أدوات الصراع لا تقتصر على الأسلحة التقليدية والاستراتيجية، بما فيها النووية ،بحكم تأثيرها النوعي في طبيعة الصراع ،فهي تضفي على المواجهة هذه المرة طابعا غير تقليدي يختلف عما شهده العالم في العقود الماضية سواء في ظل الحرب الباردة أو بعدها، وهو ما يطلق عليه علماء الاستراتيجيات، بأجيال جديدة للحروب والصراعات .
ومن شأن هذه التطورات أن تضع الدول المعنية أمام خيارات صعبة، فإما اللجوء إلى ضخ اعتمادات إضافية للميزانية بمئات الملايين من الدولارات لدعم المواد الأساسية التي ستتأثر بارتفاع الأسعار ، أو المضي في نهج سياسات رفع الدعم عن المواد الأساسية وبدرجات متفاوتة، كما يصرح الخبراء .
وبقدر ما تطرح الأزمة الحالية على الأوروبيين في المدى القصير تحديات في مجال إمدادات الغاز والنفط، فإن مؤسسات أوروبية ودول أعضاء في الإتحاد الأوروبي، وضمنهم ألمانيا يراهنون في المدى البعيد على إيجاد بدائل للطاقة التقليدية، عبر مشاريع الطاقات المتجددة سواء الشمسية أو طاقة الهيدروجين الأخضر الواعدة، وبصددها انطلقت محادثات استراتيجية بين ألمانيا والمغرب منذ عامين، وتعثرت بسبب الأزمة التي شهدتها علاقات البلدين في العام الماضي، قبل أن يعود إليها الدفء مع تولي حكومة المستشار أولاف شولتس، ويتوقع أن يكون المشروع في صدارة أجندة محادثات مقبلة بين برلين والرباط.
رغم أن الموقع الجغرافي لأوكرانيا ربما بعيدا عن دول افريقيا و الشرق الأوسط ، إلا أن الحرب التي اعلنتها روسيا عليها لجعلها دولة محايدة كما يقول أصحاب القرار في موسكو ، قد كشف بأن تأثيرات الأزمة وتداعياتها على العالم كبيرة وكبيرة جدا ؛ بسبب ارتباط المصالح بمجالات حيوية عدة في كثير من دول العالم، و علاقات كل دولة سواء أوكرانيا أم روسيا بدول العالم من الناحية الاقتصادية أو حتى الاستراتيجية منها ، فقد كشفت الحرب ما تصدره أوكرانيا لبعض دول العالم من إمدادات القمح و الزيوت و بعض السلع الغذائية الاستراتيجية ،لبعض دول العالم الثالث، والدول المتقدمة، التي تعتبر أوكرانيا موطنا للثروات، لاسيما اليورانيوم على سبيل المثال .
كما يمكن رصد الدور التنافسي الذي تلعبه أوكرانيا مع روسيا كمصدر أساسي للمواد الغذائية الأساسية (حبوب، زيوت، لحوم) لعدد كبير من الدول العربية التي تعتمد على واردات القمح عبر البحر الأسود ، والذي يوجد بدوره في قلب التوتر العسكري ، إذ تشكل أوكرانيا سلة غذاء لعدد كبير من الدول العربية و الأفريقية لا سيما مصر و الجزائر.
و مجمل القول يا سادة ، أنني أرى من وجهة نظر خاصة اخرى ، أن بعض البلدان ستواجه ارتفاعات كبيرة في تكاليف الواردات النفطية و الغذائية، على سبيل المثال إذا واجهت مصر ارتفاعا في أسعار الواردات الغذائية يمكن أن يضر ذلك بسكانها" و غيرها من بلدان عربية و أفريقية ، كما أن المؤشرات سلبية تجاه مؤشرات أسعار النفط التي لربما ترتفع كثيرا و بصورة غير مسبوقة مع استمرار الحرب على أوكرانيا و تلويح دول الغرب بالامتناع عن شراء النفط و الغاز الروسي في ظل تصاعد العقوبات ضد موسكو ، الذي لربما سوف يقود إلى مزيد من التدهور في أسعار المواد الغذائية و أسعار النفط في العالم على المدى القريب و البعيد، إذ ما أخذنا بعين الإعتبار استبعاد تطور مجريات الحرب على أوكرانيا لمستويات خطيرة ، اشارة للسيناريو المرعب الذي تحدثت عنه في بداية و سياق المقالة .