بالرغم من كثرة ما يستحق الكتابة عنه في هذه الايام ، الا ان تسارع الاحداث وهولها ، جعلتني مقيد اليدين والفكر طوال يومي الذي كنت امضيه متنقلاً من فضائية لفضائية ، ومن موقع تواصل اجتماعي لموقع آخر متابعا لها ، بحيث لم اجد الوقت ولا الكلمات التي استطيع ان اكتبها .
والى ان اتمكن من ذلك ، فقد قررت ان انشر آخر حلقات مقالتي بالعنوان اعلاه ، وربما مقالات اخرى كنت قد كتبتها ، ولكنها ظلت حبيسة هاتفي .
ولقد تحدثت في الحلقة السابقة من هذه المقالة عن مدينة نيويورك وتفردها بصفاتها ، مما جعلها من اكثر مدن العام تميزاً . و لكني قلت في نهايتها ان لنيويورك جانب آخر مظلم ومعتم وبائس ، فألى جوار مظاهر الثراء فيها ، تجد مظاهر الفقر والتشرد . حيث يقطن شوارعها عدد كبير من المشردين ، والذين يجمعون طعامهم من حاويات النفايات ، والذين ومع قدوم الليل يحجزون ارصفة نيويورك الفاخرة لتكون مكاناً لنومهم ، حيث تجد احدهم او احداهن يضع / تضع ممتلكاته / ممتلكاتها على هذه الارصفة ، والتي هي عبارة عن اكياس بلاستك سوداء تحتوي على سقط المتاع ، وما يتم جمعه خلال النهار من الحاويات . ويتم وضع قطعة قماش او كرتون في وسطها لتكون سريراً للنوم . وربما مع زجاجة مشروبات روحية رخيصة ، او كمية من المخدرات . وقد شاهدت سيدة تبدوا انها في الاشهر الاخيرة من حملها تفترش احد الارصفة لتنام عليها . كما تجد الكثير من المشردين الذين يستغلون المقاعد الحديدية الموضوعة على جوانب الطرق وفي الحدائق والمتنزهات كأسرة ينامون عليها سواء في الليل ام في النهار . كما تجد فيها مظاهر التميز العنصري ، حيث تجد ان رجال المال والاعمال على الاغلب من ذوي البشرة البيضاء . في حين ان اصحاب البشرة السمراء ، والملونين واصحب الاصول الاسبانية واللاتينية يمارسون احقر الاعمال والمهام . ومنها بيع بطاقات الباصات المكشوفة ، او ازالة النفايات من الشوارع ، او كحراس امن على البنايات والمحال او بائعين فيها . او من خلال العمل على عربات الطعام المنتشرة في كل مكان . او على ابواب دورات المياه المنتشرة هناك ، او كسائقين لوسائل النقل . وهذا لا ينفي ان بعضهم يعملون في المكاتب والشركات واجهزة الامن ، وان منهم رجال اعمال ومن كبار الاثرياء . كما ان التمييز العنصري هناك ليس ممارسة مقتصرة على اصحاب العرق الابيض ، بل ان اصحاب الاعراق الاخرى يمارسونه ايضا بما يخدم مصالحهم . فاذا ارتكب احدهم عملاً يستحق المسائلة يعلو صوته ويصرخ بالشتائم ، ويدعي ان هذا الاتهام هو تصرف عنصري بحقه . كما يمكن مشاهدة بائعي الممنوعات وهم يمارسون تجارتهم هذه ، في الحدائق والمتنزهات .
ومما يلفت النظر في نيويورك عدم وجود حاويات كافية للنفايات ، حيث يقوم الجميع بوضع نفاياتهم في ساعات المساء في اكياس بلاستيكية ، ويتم وضعها على الرصيف وبمحاذاة الشارع العام الى ان تقوم سيارات البلدية بجمعها .
وقد تصادف وجودنا هناك مع الاحتفال بشهر المثليين الذين تجد هناك الكثيرين منهم ، والكثير من التعاطف معهم ، ولدرجة يمكن وصف نيويورك بانها مدينية المثليين ، حيث ينتشرون بكثرة فيها ، ويمارسون حريتهم في لبسهم وتصرفاتهم . وقد انتشرت اعلامهم وشعاراتهم في كل مكان ، وعلى واجهات المحال والابراج . ورسمت الوانهم على الطرقات والتقاطعات والميادين ، وعلى الملابس وخاصة ملابس الاطفال . مع وضع اعلانات تدعوا للتضامن والتعاطف معهم وجمع التبرعات لهم . وخاصة في ظل ادارة امريكية ترعاهم وتقول عن نفسها بانها بلد المثليين ، وانهم فخر الامة الامريكية ، وفي ادارة يتولى عدد كبير من هذه الشريحة اعلى المناصب في الحكومة والادارة ، وحتى في قيادات الجيش الامريكي واجهزته الامنية . والتي تقر تشريعات الكثير من الولايات فيها عمليات تغيير الجنس ، وان يتزوج رجل من رجل ، وانثى من انثى ، تحت شعار حرية الحب بين الجميع ، وحرية الرأي والحرية شخصية . بل ذهب البعض الى حظر وضع جنس المولود عند ولادته ذكراً ام انثى ، الا بعد ان يبلغ الخامسة من عمره ، ويقرر هو ماذا يريد ان يكون . ولهذه الغاية يتم وضع مرشدين نفسيين في الحضانات ورياض الاطفال لمساعدة الاطفال على تحديد جنسهم الذي يريدونه او الكامن بداخلهم ، دون اعطاء ذويهم حق الاعتراض على ذلك . وتبيح قوانينهم اعطاء ادوية والخضوع لعمليات تحويل جنس جراحية لمن تجاوزوا الثانية عشر من العمر دون استشارة وعلم ذويهم ، بل معاقبتهم اذا اعترضوا على ذلك ونزع حضانتهم عليهم . طبعاً يوجد من يعارضون ذلك ويرفضونه ويدعون الى منعه . الا نهم قلة وصوتهم خافت . بل هم متهمون بانهم اعداء للحب ولحرية الرأي ، وخارجون على القانون ، وممارسون للتمييز العنصري .
وكما ان نيويورك تشتهر بابراجها واسواقها وفنادقها ومطاعمها التي تتميز بالفخامة والرقي ، بحيث اصبحت مقصدا للسياح مثلما هي مقصداً لرجال الاعمال ، فأنه توجد فيها نيويورك اخرى مختلفة المعالم والمظاهر . وتقع هذه المدينة على اطرفها ، وخلف ابراجها . حيث انه في يوم عودتنا ، ونحن في طريقنا للمطار تصادف وقوع حادث تصادم على احد الطرق الرئيسية مما جعل الشرطة تحول السير الى شوارع فرعية في ظل ازمة سير خانقة ، حيث شاهدنا هناك احياء ومنازل ومحال متواضعة وقديمة . صحيح ان بها حدائق وملاعب ولكنها لا ترقى لمثل تلك التي في قلب نيويورك . وتبدو مظاهر الفقر بادية على بعض سكانها . وكما قيل لنا فأنه تنتشر في بعض احياءها الجريمة ، والمخدرات ، والسرقات ، بحيث اصبحت غير امنة للحياة والعمل فيها الى درجة ان الكثير من المكاتب والمحال التي فيها اغلقت ابوابها ، وهجرها العاملون فيها الى اماكن اخرى اكثر امناً .
واخيراً ، صحيح انني استمتعت برحلتي هذه ، وابتعدت فيها قليلا عن عالم السوشال ميديا ، الا انني وما ان هبطت الطائرة في مطار الملكة عليا الدولي حتى شعرت انني عدت الى مملكتي وعالمي ، وكتبت في صباح اليوم التالي على الفيسبوك ( وبعد ان عدنا والعود احمد ، وبعد ان عاد الطائر الى عشه ، وبعد ان عاد يستنشق هواء بلده . اقول لكم صباح الخير ، صباح البركة ، صباح السعادة ، صباح الحب لكل ذرة رمل في هواء بلدي كنت ذات يوم اشكو منها ، لا بل صباح الوطن واهل الوطن ). حيث لا يوجد اجمل ولا احب من الاردن على قلبي.