العدد المتزايد للمحللين باطراد على شاشات الفضائيات العربية ظاهرة تستحق الوقوف عندها، ولاسيما أن هؤلاء باتوا يساهمون اليوم في صياغة الرأي العام العربي عبر ما يقدمونه من معلومات حول موقف سياسي أو اقتصادي او عسكري من هذه الدولة أو تلك... وأصبح البعض منهم نجوما من نجوم برامج (التوك شو الفضائية) يزاحمون نجوم السينما في الشهرة والصيت، يصولون ويجولون بمعلومات هنا وهناك، موزعة بين فضائي وجوي وأرضي وبحري، وبعبارات أحيانا مفهومة، وأحيانا أخرى غير مفهومة من أجل إعطاء انطباع أن ما يقال فوق مستوى إدراك الشخص العادي، وبعض من هؤلاء ساهم بشكل مباشر في تكوين الرأي العربي وتغييب الوعي، فهؤلاء يتكاثرون بسرعة هائلة على الشاشات، يوزعون آراءهم العاجلة ويثوّرون مواقف ضد مواقف أخرى، يصرخون ويتقاذفون الشتائم ويتبادلون تُهم الخيانة والعمالة والارتهان للأجنبي أو العمل كأبواق وربما وصلت بهم إلى حد الاشتباك بالأيدي على الهواء مباشرة.
وهنا سأتحدث عن المحلل الاستراتيجي العربي تحديدا الذي يخاطب الرأي العام العربي، أن يكون أكثر الناس حرصاً على الأمن القومي العربي، وأكثرهم تمييزاً بين العدو والصديق، وأكثرهم تمسكاً بالثوابت القومية، لكونه أكثر الناس إطلاعا على الأخطار المحدقة بالوطن العربي، ومخططات الأعداء الرامية للنيل من وحدته وتماسكه وصموده. لذا لا ينبغي أن يفرط بالأمن القومي، إرضاءً لرغبات القناة المستضيفة، وهو متى فعل ذلك سقط كمحلل، وأضحى بوقاً مأجوراً ليس إلا، ينبغي على المحلل الابتعاد عن اتباع أسلوب التحليل حسب الأماني، لأن هذا الأسلوب لا يعكس الرؤى الواقعية، بل يعبّر عن عاطفة المحلل، أو أماني القناة المستضيفة، فالتحليل الاستراتيجي هو نتاج بحث مرهق، وتحرٍ مضنٍ عن الحقيقة، وتدقيق مجهد في كل رقم يستخدمه المحلل، وتحقيق موثق لكل قول يستشهد به. وعلى المحلل الاستراتيجي أن يكون مواكباً للقضية المطروحة، ملماً بتفاصيلها وتطوراتها المستجدة، ويمتلك المهارة المطلوبة لربط أحداثها وبالشكل الصحيح، وتقدير الموقف على نحو دقيق، بما يخدم هدف التحليل، ثم الخروج بعد ذلك بالاستنتاجات التي تأتي في أغلب الأحيان واقعية سليمة. فليس كل من حفظ بضع جمل رنانة في المجال العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، يكررها في كل حين، هو محللٌ استراتيجي. ولو توفرت الشروط الواردة أعلاه في المحلل الاستراتيجي
مع ذلك ينبغي ألا يجزم بحدوث تطور من نوع معين في المستقبل، بل عليه أن يترك هامشاً للمفاجآت المحتملة، لأن الخبير متى قطع بحدوث أمرٍ خلال فترةٍ زمنية محددة، ولم يحدث هذا الأمر بعد انقضاء الأجل، سقط هذا المحلل وعليه ـ من الناحية الأدبية على الأقل ـ أن يتوارى عن الأنظار، لا أن يبدأ بسوق الأسباب التي أدت لعدم حدوث ما توقع.
ففي الحرب الدائرة في غزة، نستمع إلى محللين عسكريين، وكأنهم تغاظوا أو وضعوا على عيونهم غطاء سميكا بحيث لا يرون الحقيقه وهم نسخة متجددة من أولئك المحللين الذين نظروا، ونظموا حملات تحليلية في الحرب على العراق، وظلوا يصرخون، ويهللون لانتصار الجيش العراقي على الجيوش الجرارة التي جرت الويلات لهذا البلد المأزوم ولم نصح إلا على نهاية حرب فتكت وهتكت، وتركت تحليلات المنظرين، وكأنها الزبد بين شفاه ذبلت، وهي تلحس كلام الكذب والهراء والافتراء على الحقائق.
هؤلاء يظنون أنهم بتكبير الصورة الهلامية يصنعون النصر المؤزر، ولا ينصتون للصوت الفلسطيني الخارج من تحت الركام، ويصرخ للمغيث بأن يهرع، ولو بإزميل نجاة كي ينقذ النفس الأخير المتعثر تحت الغبار والتراب، وصلف الأحجار الضخمة التي تسحق الأجساد.
وبكل بساطه عندما نستعين ب"جوجل” للبحث عن أبرز جامعة من الجامعات العريقة أو الجديدة التي ُتخّرج "خبراء استراتيجيين”، . وندخل لموقع "البنتاجون” باحثين عن مسمى "خبير استراتيجي” فلا تجد مثل هذا المسمى بين "جنرالات الأربع والخمس نجوم”. هناك تجد إدارات خاصة بالخطط والبرامج الإستراتيجية ولا شيء عن المسمى أو الكلمة التي استهلكت عندنا بصورة غير مسبوقة، بحيث لم نعد نفرق ما بين”التكتيكي” و”الاستراتيجي”. لدرجة أن البعض عندنا لا يرضى بأي موضوع عن دائرته أو الموقع الذي يتحمل مسؤوليته ما لم تحف بها هذه الكلمة، ويرافقه السيد الخبير الاستراتيجي في جولاته ومؤتمراته الصحفية. والعقدة الأكبر أن السيد الخبير الاستراتيجي يجب أن يكون احيانا مستورداً، فالكادر المحلي لا يصلح أن يكون محللا أوحتى منظرا إستراتيجيا، لأنه لا زال طري العود، قليل الخبرة، رغم وجود بعضهم في المكان الذي هم فيه لأكثر من عشرين عاما، ومنهم من تعتبرهم دوائر وهيئات متخصصة خبراء في مجالهم وتنظر لآرائهم بكل التقدير والاحترام
وعالميا وحتى نكون أقرب الى الواقع أصبح التحليل من خلال شركات متخصصه في مجال الاستخبارات تبتكر طرقا تكنولوجيه تساهم في كيفية قيادة الابتكارات الذكاء الاصطناعي عبر سحابة الذكاء الخاصة بها. وتشمل التطورات التي حققتها بعض الشركات مثل شركة Recorded Future نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) لتقليل العبء الذهني على متخصصي الاستخبارات؛ بالإضافة إلى التطورات في الذكاء الاصطناعي لزيادة القيمة القصوى لكيفية استخدام المنظمات والحكومات على مستوى العالم للذكاء للدفاع عن البنية التحتية والبيانات التي نعتمد عليها جميعًا.
ومما لا شك فيه فلقد أعادت شبكة الإنترنت تشكيل السياسة والسلطة العالمية بشكل جذري على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، مما أدى إلى بدء عصر من التهديدات غير المسبوقة. ويمكن للجهات التخريبية تعطيل العمليات بسرعة عبر النطاقات السيبرانية والمادية والحركية مع تعميم الفوضى من خلال نشر المعلومات المزيفة. ومع هذه الهجمة من التهديدات المتقاربة، من الضروري اعتماد نهج جديد يسمح للمؤسسات والحكومات بالتحرك بسرعة الذكاء الاصطناعي.
"لقد أدى الذكاء الاصطناعي المستقبلي المسجل إلى تقليل الوقت الذي تقضيه فرق العمل والتحليل والخبراء لدينا في البحث عن معلومات التهديد وتحليلها وتلخيصها بشكل كبير، وتساعدنا رؤى الذكاء الاصطناعي الخاصة بها على خلق وعي بالموقف بشكل سريع فيما يتعلق بالتهديدات وتمكن خلايا العمل من التركيز بشكل أقل على العمل اليدوي وتخصيص وقت حاسم لفهم التهديدات في السياق حتى يتمكنوا من اتخاذ إجراءات فورية".
والخلاصة يا سادة أن "زامر الحي” يطرب أيضا بعد كل هذه التجارب الثرية والخبرات المتراكمة، وجدير بأن يكون "خبيرا” صناعة محلية مئة بالمئة، ولا يحتاج منكم لأكثر من الثقة ومنحه مجرد فرصة.