في مثل هذه الأيام بعد حرب عام (1967)، كانت معركة الكرامة ام المعارك التي اعادت للعرب جزء من كرامتهم، والتي أحيّت روح المقاومة الفلسطينية التي شقت طريقها نحو العالمية، لتصبح منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي للمقاومة. في كتاب المغفور له بأذن الله الملك الحسين بن طلال بعنوان "حربنا مع إسرائيل "اوقفني الفصل الأول بعنوان "حتميّة النزّاع "، في هذا الفصل يقول الحسين عن استخدام اسرائيل حجة نشر اخبار هجمات الفدائيين العرب واستغلال هذه "الهجمات بمهارة دعاية مركزة تستهدف استدرار عطف العالم "، وأشار الحسين الى أبرز تلك الهجمات حادث الاعتداء على بلدة السموع عام (1966) (قبل ثلاثة شهور من حرب ال (1967) التي عرفت بالنكسة.
نعم لقد حذر الحسين الامه العربية من التوغل والتغول الإسرائيلي في المنطقة قبل الحرب، فقد طالب الملك الحسين بتاريخ 2 تموز (1962)، عبر إذاعة بيان بعنوان " الأردن والقضية الفلسطينية والعلاقات العربية "، واقتبس من الكتاب " حيث تضمن البيان الطلب الأردني بإنشاء وحدة عربية حقيقية واقتبس "احداث جهاز يتولى انشاء قوة عربية مسلحة ينسق وسائلنا العسكرية المشتركة، وذلك لمواجهة أي تهديد من جانب إسرائيل. وقد أطلقنا على الجهاز اسم " القيادة العربية الموحدة، ووضعنا القائد المصري على عامر على راس الجهاز " انتهى الاقتباس. وكذلك أكد الحسين على الطلب الأردني على مدار ثلاث قمم عربية من القاهرة والإسكندرية والدار البيضاء، حيث يستذكر الحسين في مؤتمر القمة العربي الثاني في مدينة الإسكندرية المصرية خلال الفترة من5 و 12 سبتمبر / أيلول (1964)، قائلا " حيث سجلت القيادة العربية بعض التقدم في المجال العسكري لكن تبين انها تحتاج الى موارد مالية إضافية لإنشاء سلاح جو قوي في الاردن وانشاء قواعد جوية وشراء طائرات، حيث رفض الطلب من غالبية الزعماء العرب ". نعم تلك القمم التي كان على جدول اعمالها دائما طلب من الحسين تشكيل قوة عربية موحدة، والتي كان اخرها قمة الدار البيضاء التي عقدت بتاريخ 19 أيلول / سبتمبر من عام (1965)، لمناقشة وضعية الجيوش العربية وهل هي جاهزة لمحاربة الإسرائيليين.
لقد اهتم المغفور له الحسين في العمل الفدائي المنظم ، منذ ان افتتح اول مجلس وطني فلسطيني في القدس بتاريخ 30 أيار / مايو (1964) ، واصفا الموقف الأردني : " القضية الفلسطينية تعنينا نحن الأردنيين أكثر من أي بلد عربي اخر، انها تعنينا مباشرة، لهذا رحبنا من حيث المبدأ بقيام منظمة التحرير وأعلنا استعدادنا لدعمها دعما مطلقا، ولكن بشرط هو ان تتعاون المنظمة مع الأردن تعاونا صادقا " انتهى الاقتباس ، كذلك أشار الحسين الى معاملة الأردن للاجئين الفلسطينيين معاملة فريدة في جعلهم شعبا واحدا ، وإتاحة لكل فلسطيني الحصول على الجنسية الأردنية ، بعكس بعض البلدان الأخرى التي منحتهم فق حق الإقامة. وفي السياق أيضا أشار الحسين في غياب القوة العربية المشتركة (اقتبس من الكتاب) " لنفرض ان عدوانا إسرائيليا وقع على الأردن والحالة كما ذكرت فهل يعقل ان يعتمد الأردن على تدخل سريع وفعال من جانب القوات الجزائرية او المغربية مثلا؟"
شهدت تلك الفترة بين الأنظمة العربية ما بين الأنظمة الملكية والأنظمة الجمهورية جرحا في جسم الامه العربية ،عندما خرج الرئيس المصري جمال عبدالناصر ليجعل هذا الجرح يلتهب ، حين قام بتنصيب نفسه زعيما للحركة القومية العربية ، فقام بتأسيس ما عرف آنذاك الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا ، تلك الوحدة التي لم تستمر اكثر من ثلاث سنوات منذ عام (1958) ولغاية عام (1961) ، وبعد ان فشل ناصر في هذا المشروع استشاط غضبا وتوجه الى البديل عن سوريا وهي اليمن ، من خلال دعمة للثورة في اليمن او ما عرف في حرب اليمن معترفا في تشكيل الجمهورية اليمنية ،وقام بارسال الجيش المصري لدعم ثورة اليمن والتي اشتعلت شرارتها بتاريخ 26 أيلول / سبتمبر (1962)، فقام بدعم الضباط الاحرار للقيام بثورة على المملكة المتوكيلة ؛على الرغم من ان المقربين منه مثل محمد حسنين هيكل نصحه بعدم ارسال قوات مصرية لدعم ثورة اليمن ، لم يكن مشروع ناصر مشروعا عربيا قوميا بل مستهدفا المملكة العربية السعودية ، اقتبس من كتاب حربنا مع اسرائيل " بعد مؤتمر القمة الثالث في الدار البيضاء 13 – 17 أيلول / سبتمبر (1965)، نشب خلاف علني شديد بين مصر والمملكة العربية السعودية بسبب اليمن، وبين مصر والأردن بسبب منظمة التحرير الفلسطينية" .
تحول النزاع العربي (الجرح العربي) آنذاك الى نزاع سياسي بين عبدالناصر و ال سعود، والتي أوردها الكثيرون في مذكراتهم ممن عاصروا تلك الحرب، مثل مذكرات عبدالمنعم خليل مدير العمليات العسكرية باليمن، ومذكرات السادات ومذكرات عبدالله الأحمر ومذكرات السير انتوني نتنغ Sir Anthony Nutting . إلا انه عندما وصلت القوات المصرية الى الحدود الجنوبية من السعودية، أعلنت الأردن تحالفها مع السعودية وعقد اتفاقية الدفاع المشترك (اتفاقية الطائف) ضد الثورة، حيث وصل عدد القوات المصرية في عام (1967)، في اليمن الى (55) ألف جندي مصري، بقيادة المشير عبدالحكيم عامر (نائب القائد الأعلى المصري).
كان الموقف الإسرائيلي مثل موقف "الذي يصب الزيت على النار"، مستهدفا إضعاف واستنزاف اقوى الجيوش العربية ممثلة بالجيش المصري وباقي الجيوش العربية، وذلك لخلق بيئة ملائمة لخوض حرب جديدة مع العرب، وخاصة بعد ان خسرت مصر في تلك الحرب ما يقارب 20 ألف قتيل ، كذلك قامت بالمشاركة في تلك الحرب فيما عرف لاحقا في عملية الصلصة او القنفذ او عملية الشيهم ، من خلال دعم الملكيين في اليمن بالسلاح بحسب اعترافات مدير الموساد آنذاك مائير عاميت ، حين قام سلاح الجو الإسرائيلي باستخدام طائرات من نوع بوينغ Boeing C-97 Stratofreighter في عمليات ألقاء الأسلحة والذخائر والمعدات بالمظلات على الثوار الملكيين الذين يقاتلون الجيش المصري ، مستخدمة مطار جيبوتي التي كانت تحت الحكم الفرنسي للتزود بالوقود والعودة الى تل ابيب ، حتى ان بعض المشايخ في اليمن يستذكر "انهم كانوا مجتمعين مع الشيخ حسن الحوثي احد القادة ضد الثورة وفي منتصف الليل سمعوا صوت طائرة في الجو وشاهدوا 14 مظلة تسقط فقال احد الشيوخ " انظروا حتل الله يساعد الامام".
ولم يقتصر النشاط الإسرائيلي على تلك العملية ، بل نفذت اقوى عملية استخبارية اثناء عقد القمة العربية في المغرب ، والتي سميت في قاموس عمليات الموساد عملية سيبوريم (العصافير) ، التي تم فضحها لاحقا الكاتب روتين برجمان كتابة" انهض ، واقتل ، أولا " والذي يسرد في كتابة مسلسل التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية ، حيث تطرق في الصفحة 100 ، كيف ان الملك الحسن الثاني (ملك المغرب) قد سمح لعملاء الموساد بقيادة تسفي مالتشين ورافي إيتان خلال انعقاد القمة العربية ، في التجسس على جميع غرفة الاجتماعات والأجنحة الخاصة للقادة العرب والقادة العسكريين ،وذلك للحصول على جميع المناقشات واللقاءات التي تمت لمناقشة الحرب المستقبلية مع إسرائيل ، فلقد فضحت تلك التسجيلات ان العرب ليسوا بجاهزين لخوض حرب مع إسرائيل ، بل سمعوها من القادة العرب وقادة الجيوش العربية ، كما أنهم عرفوا انه سيتم توحيد قوة عسكرية لضرب إسرائيل ،وكذلك سمعوا الاختلاف والمشادة الكلامية بين الحسين وجمال عبد الناصر ، التي تلاها الصلح المتأخر وتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والأردن في 30 أيار / مايو (1967) قبل الحرب. نعم لقد كانت تلك المعلومات الاستخبارية الدقيقة والحساسة نقطة تحول في تاريخ إسرائيل، لأنها جعلتهم يقومون بشن اول تلك الغارات على بلدة السموع عام (1966)، والتي تلاها الهجوم المباغت للإسرائيليين يوم 5 حزيران / يونيو 1967))، حرب الأيام الستة (النكسة)، وبالمقابل لهذه التسجيلات الحساسة فلقد ساهمت إسرائيل بشكل مباشر بعد شهر من تلك القمة، بالتعاون مع ضباط فرنسيين فاسدين بتصفية المعارض المغربي المهدي بن بركة في عملية بابابتر للموساد.
في الفصل الثاني من نفس الكتاب بعنوان "الهجوم الإسرائيلي في تشرين الثاني (1966)”، قال الحسين" سيعيش الشرق الأوسط أياما حالكة" اذ قال:" بدأ واضحا فور انفضاض مؤتمر القمة الثالث في أيلول/ سبتمبر (1965)، ان الوحدة العربية أضحت ملغومة من أساسها، وان القيادة العربية الموحدة لم يعد لها وجود فعلي. وقد تسببت مناورات منظمة التحرير الفلسطينية واعمال الفدائيين في الإساءة الى سلم قد بدأ ينهار في حين كان العالم العربي الشديد الحرص على استمرار آمل الوصول الى حل إيجابي للقضية الفلسطينية" انتهى الاقتباس ، وللعودة للغارة الإسرائيلية على بلدة السموع التي حدثت في 13 تشرين الثاني / نوفمبر (1966)، قال الحسين (كما يدعي الإسرائيليين) " الرد على نشاط الارهابين التابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية " هاجم الإسرائيليون بلده " السموع" الأردنية التي يبلغ عدد سكانها أربعة الاف جميعهم من اللاجئين، وقد اتهمت سلطات تل ابيب بإيواء ارهابين دخلوها قادمين من سوريا. بدأ الهجوم الساعة الخامسة والنصف صباحا بقصف من المدفعية غطى دخول أربعة الاف جندي إسرائيلي كانت، تنقلهم سيارات الجيب والسيارات المصفحة وخمسة دبابات من طراز" باتون"، فاقتحمت هذه القوات البلدة الأردنية التي تحميها الشرطة المحلية، وبينما كانت أجهزة التخريب تنسف بالديناميت 46 منزلا ومستشفى " السموع" كانت الدبابات تطلق نيرانها الكثيفة على دائرة الشرطة، وقد أصيبت مأذنة المسجد ببضع طلقات" انتهى الاقتباس. ويتحدث الحسين عن الكمين الذي نصب من الصهاينة للقوة الأردنية، التي وصلت من الخليل لنجدة السموع، واشتباك طائرات الهوكر هنتر الأردنية مع طائرات الميراج الإسرائيلية، تلك العملية التي استمرت أربع ساعات وهروب القوات الإسرائيلية الساعة العاشرة واجتيازها الحدود.
نعم لقد توقع الإسرائيليين انهم يستطيعون ان يعيدوا الكرة مره ثانية بعد حرب الأيام الستة، بحجة ان الفدائيين الفلسطينيين المتواجدين في منطقة الاغوار (الكرامة) سيكونون هدفا سهلا لهم، وان القوات الأردنية ستقف موقف المُتفرج تنظر لهم وهم يدمرون مواقع الفدائيين، بعد ان اصبح هذا الجيش يسيطر علية الغرور والغطرسة التي توقع ان معركة الكرامة ستكون مثل حرب الأيام الستة أو حادث بلدة السموع ، والتي وقف العالم معهم فاتحا مصانع التصنيع العسكري وخطوط الامداد لهم كما يحدث الان في غزة ، في فجر يوم 21 اذار / مارس (1968)، عبرت نهر الأردن قوات الكيان الصهيوني، عبر جسر دامية وجسر الملك حسين وجسر الملك عبدالله ، على طول الواجهة من الشمال وجنوب البحر الميت وتحت غطاء جوي كثيف ، فتصدى لها الجيش العربي الاردني كتفا الى كتف مع الفدائيين الفلسطينيين ،فلقد كانت تلك المعركة مع القوات الصهيونية ومع الفدائيين استمرت خمسون دقيقة ، ولكنها استمرت مع الجيش العربي الأردني 16 ساعة ، اًُجبرت فيها إسرائيل على الانسحاب تاركه خلفها خسائرها وقتلاها دون ان تتمكن من انقاذهم او حتى النظر اليهم .
واليوم ما يحدث في غزة في حاضرنا هو امتداد لماضينا، وهو نفس أسلوب الإرهاب الصهيوني على يد أبناء الجيل الثاني او الثالث للجيش البربري، وهذا ليس بغريب على جيش تشبع Indoctrination في عقيدة عسكرية مبنية على سياسة الإرهاب في الترهيب والترويع والعمليات الانتقامية the reprisal raid من خلال استهداف الأبرياء من المدنيين والأطفال والنساء والمستشفيات والمساجد وملاحقة النازحين، هذا الجيش الذي خرج من رحم علاقة غير شرعية بين بريطانيا والصهيونية. قد يعتقد مجلس الحرب الصهيوني المتطرف بقيادة زعيم الارهابين نتنياهو ان التاريخ لن يعيد نفسة، وقد يجازف في جريمة آخرى في رفح فاذا اقدم على هذا المناورة والجريمة ، بعد كل تلك الجرائم البشعة الإرهابية ضد اهلنا في غزة ، متحججا بانه يقوم بعملية "تأديبية" مثل مهاجمة بلد السموع ، او مثل دخوله للحدود الأردنية في يوم الكرامة ،او بحجة مكافحة الإرهاب مرتديا قناع جيش حمائم السلام متناسين ماضيهم الأسود الإرهابي من المنظمات الأرهابية الصهيونية من هاوشومير، و هاغاناه، وايتسل، وليحي، وشتيرن، والارغون والبلماخ الى تساهل او اصبح ما يسمونه بالجيش الصهيوني (تسفا هجاناه ليسرائيل) ، عندها لا اعتقد ان أي نظام او أي قيادة تستطيع ان توقف او تغير في عقيدة جيوشها العسكرية ، فالجيش الصهيوني الذي غرس ويغرس في جنوده العقيدة الدينية اليهودية المتطرفة ، سيقابله جيش مصري في رفح لن يقف موقف الحياد فكما حدثت معركة الكرامة ستحدث معركة كرامة جديدة .