في السنوات الماضية، تناوب على وزارة الاستثمار عدد من أصحاب المعالي، ولكل منهم بصمته الخاصة، خصوصًا في الترويج الإعلامي. تصدرت التصريحات والمانشيتات عناوين الصحف، مع وعود مشرقة بتحقيق إنجازات استثمارية.
ولكن الاستثمار ليس مجالًا للترويج الإعلامي بقدر ما هو ميدان للنتائج الواقعية والأرقام الملموسة، فالفيصل هنا هو تقارير دقيقة تُظهر بوضوح حجم الاستثمارات الأجنبية والمحلية، أثرها الاقتصادي، وقدرتها على خلق فرص عمل ودفع عجلة الاقتصاد الوطني.
الواقع يُظهر أن الاستثمار لا يُدار بالنوايا أو اللقاءات أو حتى الشعارات الطموحة، بل بالجدوى والنتائج.
فمثال بسيط يعكس هذا المفهوم: جارنا أبو أيمن، صاحب دكان صغير، توقف عن بيع أحد المنتجات، وحين سألته عن السبب، أجابني بثقة: "لأنه مش جايب همه.”
هذا المثال العفوي يختزل بذكاء مفهوم الاستثمار: القرار الاستثماري يعتمد على نتائج ملموسة وجدوى حقيقية، سواء على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد.
والسؤال هنا: هل يمتلك أصحاب المعالي نفس الوضوح في تحديد القطاعات والفرص المجدية للأردن؟
السؤال الأكبر الذي يجب أن يُطرح على كل وزير استثمار هو: ما هي القطاعات الأكثر جدوى للأردن؟
هل تم تحديد هذه القطاعات بناءً على دراسات علمية معيارية تتوافق مع الوضع الراهن والمستقبل؟
وهل ارتبطت هذه الجهود برؤية استراتيجية طويلة الأمد تُركز على مكاسب مستدامة، استندت إلى تجارب النجاح التي حققها المستثمرون في الأردن خلال السنوات الأخيرة؟
هنا تبرز أهمية استلهام تجارب عالمية ناجحة في إدارة وتطوير الاستثمار والاستفادة من هذه التجارب، خصوصًا تلك التي وُجهت لتحديات مشابهة، يمكن أن تفتح آفاقًا واسعة أمام الأردن. في ظل الفرص الواعدة التي نتميز بها، مثل الموقع الاستراتيجي، الكفاءات البشرية، والإمكانيات الطبيعية، يصبح من الضروري تبني دراسات معيارية مقارنة تُظهر أفضل الممارسات العالمية وتُكيفها مع احتياجاتنا المحلية.
تتفرع من هذا السؤال قضايا أخرى لا تقل أهمية: هل يحمل أي وزير استثمار في سجله تجربة نجاح حقيقية في القطاع الخاص؟
الاستثمار، بطبيعته، يحتاج إلى معرفة متخصصة وتجربة عملية لفهم آلياته وتحدياته.
الحديث عن الاستثمار دون الانخراط مع القطاع الخاص بشكل عملي وتحليلي يبدو وكأنه "نشاز” اقتصادي.
فالأرقام وحدها هي التي تُحدد النجاح أو التأخر، وليس استعراض المشاريع المحتملة أو الإعلانات الطموحة.
وهنا يأتي ملف حساس يتطلب الجرأة في الطرح: هل هناك قائمة واضحة بالاستثمارات التي غادرت الأردن او سجل بالتحديات التي واجهها المستثمرون ،
هل تم التواصل مع هؤلاء المستثمرين لمعرفة الاسباب ؟ وهل تم الاستفسار من المستثمرين الذين حضروا لاستكشاف الفرص الاستثمارية ولم يعودوا مرة أخرى؟
إذا لم تكن هناك قنوات حوار حقيقية مع هؤلاء المستثمرين لفهم تحدياتهم وأسباب ترددهم أو انسحابهم، فكيف يمكن معالجة العوائق وضمان جذب استثمارات جديدة؟
فقد حقق الأردن إنجازات بارزة بفضل بيئته الاستثمارية الجاذبة وموقعه الاستراتيجي وكفاءاته البشرية المتميزة وهذا يتطلب استدامة تطوير البيئة الاستثمارية اضافة لمقاربة جادة تركز على العناصر الجوهرية التي تعزز الاقتصاد المحلي. الحديث هنا ليس عن استقطاب الأموال فقط، بل عن خلق منظومة استثمارية مستدامة تُترجم إلى فرص عمل حقيقية، نمو اقتصادي ملموس، ودعم للقطاعات الحيوية ذات الأولوية.
إن ما شاهدناه من الإدارة الحالية للحكومة بتقييم الفرص والتحديات جغرافيًا، يعتبر خطوة مبشرة بالخير، ويتوجب عكس هذا التوجه على الخارطة الاستثمارية لضمان تحقيق التوزيع الأمثل للموارد والفرص.
الإجابة على هذه التساؤلات ليست خيارًا، بل ضرورة وطنية. الاستثمار ليس مجرد أرقام في التقارير، بل منظومة متكاملة تعتمد على وضوح الرؤية، عمق التخطيط، وصدق التنفيذ.
وإذا أردنا أن نرتقي بواقع الاستثمار في الأردن، فإن الخطوة الأولى تبدأ بطرح هذه الأسئلة، وتبني تجارب معيارية عالمية، واستثمار الإمكانيات المحلية الواعدة بذكاء وفعالية. فقط عندها، يمكننا أن نقول إننا نسير في الاتجاه الصحيح.