لم يكن ظهور مذيعة ذات بشرة سمراء على شاشة التلفزيون الأردني مجرد لقطة عابرة أو خطوة تجميلية في واجهة إعلام الدولة؛ كان حدثاً يحمل في داخله معنى أعمق من الظاهر، رسالة تقول إن الأردن وطن واسع بما يكفي ليحتضن تنوّعه، وإن الهوية ليست صالون ألوان، بل فسيفساء غنية لا تكتمل إلا بجميع أبنائها.
لقد اعتدنا طوال سنوات طويلة على صورة نمطية في الإعلام الرسمي؛ وجوه متشابهة، ملامح متقاربة، ولون واحد يحتل الشاشة. لذلك جاء هذا الظهور المختلف ليوقظ الأسئلة، وليكسر فكرة أن الهوية المرئية حكرٌ على لون دون آخر. هذا ليس مجرد انتصار فردي لمذيعة، بل انتصار لفكرة العدالة في الحضور، ولمنطق أن الكفاءة هي التي تصنع الطريق، لا اللون ولا الشكل ولا الخلفية.
ومن قلب هذه الخطوة الجريئة يخرج سؤال أكبر، أعمق، وأكثر شرعية:
إذا كان الإعلام الرسمي قد فتح أبوابه للتنوّع، فمتى نرى هذا الانفتاح ينعكس على مواقع القرار؟ ومتى نشاهد وزيراً ذا بشرة سمراء يجلس على مقعد المسؤولية في حكومة أردنية؟
هذا السؤال ليس استفزازاً، ولا مطلباً عاطفياً. إنه سؤال ينطلق من حقيقة أن الأردن يضم بين أبنائه طاقات تفوق الوصف—شخصيات تحمل أعلى الدرجات العلمية، خبرات واسعة، ومسيرة مهنية مشرفة في ميادين التعليم والاقتصاد والإدارة والخدمة العامة. هناك أردنيون ذوو بشرة سمراء أثبتوا جدارتهم في كل مجال دخلوا إليه، لكنهم لم يأخذوا بعد فرصتهم الكاملة في مواقع القيادة العليا.
إن التمثيل الحقيقي ليس ترفاً، بل ضرورة وطنية. فالعدالة في الفرص هي العمود الفقري للدولة العصرية، وتمكين الكفاءات—بغضّ النظر عن ألوانهم—هو الطريق الأكثر وضوحاً نحو الثقة العامة. وحين يشعر كل مواطن أن الأبواب مفتوحة أمامه ما دام يحمل علماً وخبرة ومشروعاً، يصبح الوطن أقوى، وتصبح الدولة أكثر رسوخاً وصموداً.
لقد أثبت الأردن عبر تاريخه أنه قادر على كسر القوالب التقليدية حين يريد، وعلى مفاجأة الجميع بخيارات جريئة تعيد ترتيب المشهد وتعزز الثقة. فما المانع إذن من أن تمتد خطوة التلفزيون الأردني إلى مجلس الوزراء؟ وما المانع أن نرى في الحكومة القادمة وجهاً أسمر يحمل حقيبة وزارية، صوتاً يمثل شريحة واسعة من أبناء الوطن؟
إن الأردن اليوم بحاجة إلى إعادة تعريف الصورة، لا من باب التجميل، بل من باب الحقيقة. فالأوطان التي لا تُظهر كل أبنائها، لا تعرف نفسها جيداً.
ولعلّ البداية كانت من الشاشة… لكن النهاية يجب أن تكون في صميم الدولة:
عدالة في الاختيار، مساواة في الفرص، وتمثيل يليق بوطن يفتخر بكل أبنائه، بلا استثناء.