عبيدات يكتب .. «شيلة حبارصة »… حين تُغادر الجماعة معًا وتبقى
الحكاية في الذاكرة
نيروز – بقلم الكاتب والإعلامي محمد محسن عبيدات
في الذاكرة الشعبية لمنطقة الكفارات في لواء بني كنانة، تتناقل
الألسن مثلًا تراثيًا ظل حاضرًا بقوة حتى يومنا هذا، هو مثل «شيلة حبارصة»؛ مثلٌ بسيط
في لفظه، عميق في دلالاته، ويختزن حكاية اجتماعية تعكس روح الجماعة، وصدق العلاقات،
وأخلاق الضيافة التي تميّز بها أهل المنطقة عبر الأجيال.
تعود جذور هذا المثل إلى بلدة حبراص، حيث جرت العادة قديمًا
أن يتوافد الأهالي لزيارة أحدهم لسببٍ ما، سواء للمؤانسة، أو المشاركة في مناسبة اجتماعية،
أو للوقوف إلى جانب صاحب الدار في شأنٍ عام. وكان اللافت في تلك الزيارات أن الضيوف
لا يأتون دفعة واحدة، بل يتقاطرون على فترات، إلا أن مشهد المغادرة كان مختلفًا تمامًا؛
إذ ما إن ينهض أحدهم مستعدًا للرحيل، حتى يقف الجميع في اللحظة ذاتها، ويغادرون معًا،
فلا يبقى أحد في الدار بعد انفضاض المجلس.
من هنا، وُلدت عبارة «شيلة حبارصة»، لتصبح توصيفًا دقيقًا
لهذا السلوك الجمعي الفريد، ثم ما لبث المثل أن انتقل من حبراص إلى منطقة الكفارات،
ومنها إلى عموم لواء بني كنانة، حتى غدا تعبيرًا شائعًا يُقال في نهاية أي جلسة أو
زيارة، فعندما يهمّ أحد الحاضرين بالمغادرة، يقف الجميع تلقائيًا، ويعلّق أحدهم مبتسمًا:
«شيلة حبارصة »، في إشارةٍ يفهمها الجميع دون شرح.
ولا تكمن قيمة هذا المثل في طرافته فحسب، بل في ما يحمله
من معانٍ اجتماعية عميقة؛ فهو يعبّر عن روح الجماعة التي كانت – ولا تزال – سمةً أصيلة
في المجتمع المحلي، حيث لا يترك الفرد وحده، ولا يُكسر خاطر المضيف ببقاء قلة بعد انصراف
الأغلبية. كما يعكس المثل الانسجام الاجتماعي والاتفاق غير المعلن بين الناس، واحترام
الوقت والمجلس، والشعور المشترك بالمسؤولية الأدبية تجاه صاحب الدار.
أما من الناحية الثقافية، فإن «شيلة حبراصة » تمثل نموذجًا
حيًا على الأمثال الشعبية بوصفها ذاكرة المجتمع، تختصر سلوكًا، وتحفظ قصة، وتنقل قيمًا
أخلاقية من جيل إلى جيل بأسلوب سلس وعفوي. فالأمثال ليست مجرد عبارات دارجة، بل هي
خلاصة تجارب طويلة، ومرآة لأسلوب الحياة، وطريقة التفكير، وطبيعة العلاقات الاجتماعية
في زمنٍ كانت فيه البساطة عنوانًا، والتكافل قاعدة راسخة.
إن تداول هذا المثل حتى اليوم، رغم تغيّر أنماط الحياة وتسارع
إيقاع العصر، يؤكد أن التراث الشعبي ليس ماضيًا جامدًا، بل كائن حيّ يتجدد في الذاكرة
اليومية، ويستمر ما دامت القيم التي يحملها ما زالت حاضرة في النفوس. ولعل «شيلة حبراصة»
تذكيرٌ صادق بأن قوة المجتمع تكمن في تماسكه، وأن أجمل ما في الزيارة ليس طولها، بل
دفئها، ولا في الرحيل فرادًا، بل في المغادرة معًا.
وهكذا، يبقى هذا المثل شاهدًا أدبيًا وإنسانيًا على أصالة
لواء بني كنانة، وعلى حكمة الأجداد الذين صاغوا من تفاصيل حياتهم اليومية أمثالًا،
ما زالت تنبض بالمعنى، وتحكي الحكاية كما لو أنها قيلت اليوم.