نيروز الإخبارية : مبروووك الإخبارية.
بقلم :جميلة عويصي السرحان.
وحان فجأة من بعد عمري لن أرى أغلى مكان..
وأنكوى مني فؤادي كاليتيم إذا يعاني..
يا ربوعاً لن أراها عشت يوماً في رباها..
كانت النفس تغني وترى فيها صباها..
ورياضاً كم رتعنا وأنطلقنا في سماها..
سوف تبقى في خيالي كالجنان في بهاها..
إن رحلت الآن قلبي سوف أهديك..
وحبي ودموعي سوف تروي قصة الشوق بدربي..
وعلى الذكرى سأبقى وستبقى روحي لديك..
صابرةٌ تلك التي تغربت أول عمرها ، وتركت أمها وأباها وأخواتها وإخوتها ، وحوش جدها وجدتها ، وصويحباتها في الحي ، وصديقاتها في المدرسة ، ووطنها الذي تعشق ، في حين نجد كثيرٌ من هن بعمر الخمسينيات لا يستطعن الابتعاد عن أمهاتهن أو أهاليهن..
صابرةٌ هي حين وجدت نفسها بين ليلة وضحاها أمام مسؤولية كبيرة ، ونقلةٍ نوعية في حياة جديدة بين عالمٍ جديدٍ بتقاليده وعاداته ولهجته وبيئته ، فتحاول التعايش والتأقلم مع هذا كلّه لتحيا..
صابرةٌ هي حين إنجرح قلبها فسكتت وتحملت ولم تحمل نفسها بسيارة أجرة إلى بيت أهلها مثلما تفعل الأُخريات ،
ولقد مرضت وتعبت وإلى الطبيب ذهبت لوحدها ، وحين وجدت الجميع مع أمهاتهن يخففن عنهن الألم ، فيمسكن بإيديهن ويدفئنهن بشال أكتافهن ، حزِنَ قلبها فعصرته بيدها وقالت : فلتهدأ يا قلب ، ودون أن تدري سالت دمعتها فهي حتى لا تستطيع إخبار أمها بأنها مريضة خشيةً عليها من القلق.
فلقد تعبت وحملت تسعة أشهر وأنجبت ، فكانت تتمنى حين تدخل غرفة الولادة أن تمسك بيدها أمها وتشجعها وتقول لها: لا بأس عليكِ يا إبنتي ، وحين تصحو وتخرج من غرفة الولادة فإذا بأمها تنتظرها عند الباب والفرحة تغمر قلبها ، فتُقبلُ عليها وتقبلُها وتحضنها وتحمد الله على سلامتها ، ثم تمسك وليدها بعيون ملؤها الحب وتغني له ، لكنها لوحدها فلا أمٌ ولا أخت تحنو عليها..
إذْ ربّت إبنها وإبنتها وحدها تواصل الليل بالنهار ، تتمنى يومٌ أو يومين فقط أن تضع صغيرها عند أمها وأخواتها ، لترتاح قليلاً ، وتنام قريرة العينين ، فأمها ستتكفل بصغيرها أو صغيرتها ،ولكن لا مفر..
تجلسُ في بيتها فترنو إلى الباب فتحلم أن يطرقه أحد لتجد أحد أحبابها ، أمها ، أبيها ، وإخوتها وأخواتها ، والجد والجدة عشقٌ أزلي ، فأقصى أمانيها لحظات تقضيها في بيت والدها مع أبيها وأمها ، وأن تتناول الإفطار مع إخوتها وتسمع حكاياهم وتمازحهم ، وبعدها تذهب مع والدتها لزيارة بيت جدها وجدتها فهناك الحياة الهناء فتُسرع لإخراج الخبز مع جدتها من فرن الطابون ، وتذهب مع جدها إلى بستان الزيتون ، فتقطف الزيتون مع جدها وخالاتها إذْ يغنين:
علـــــــــــــــى دلعونـــــــــة وعلــــــــــــى دلعونــــــــــــة
زيتـــــــــون بـــــــــــــــلادي أجمــــل مــــــا يكونــــــــــــا
زيتون بلادي واللوز الأخضر والميرامية ولا تنسى الزعتــر
وقراص العجــة لمـا تتحمـر ما أطيب طعمها بزيت الزيتونا
خبــز ملتوت وجبنــة طريـــة أكلـة تدفينـــا بالشتويـــــــة
وصحون السحلب والهيطليـة خلتنــا ننسـى بــردك كانونــا
يا ربي تشتي ونلبس طاقيـة ونلبس كبود ونحمل شمسيــة
ونغني سوى يا أردنيـــــة دايم في بلادي خبز الطابونـــا
فتصحو من حُلمها على صوت أطفالها ، فتُفرغ حزنها بدمعة سالت دون إرادتها..
صابرةٌ هي فلقد عوّدت نفسها على أن لا تعتمد إلا على نفسها مخافة أن تُحرج أو تُخذل أو تُثقل على أحد.
فلنلتفت لتلك الصابرة البعيدة عنّا ولنُأنسها بمهاتفةٍ أو زيارةٍ إن استطعنا ، فلقد علّمتها الغربة أن تنظر إلى الورد كلما ضاقت نفسها ، وعلّمتها الغربة وافهمتها تلك القصة التي كانت تحكيها لها أمها وهي طفلة صغيرة عن الصداقة ، فأدركت أن للصداقة حدود أبعد بكثير من مجرد كلمات تقال ، وعلّمتها الغربة أننا نملك أشياء كثيرة لكننا لا ندرك قيمتها ، كما علمتها الغربة أن تكتم ألمها بداخلها ، فلقد علّمتها الغربة الكثير الكثير الكثير ..
فهي في كلّ مرة تركب فيها الطائرة تتأمل وجوه أحبتها وأهلها وتقول في نفسها : أخشى أن تكون آخر مرة.