تفتقر حياتنا للعطاء الحقيقي لأننا تفتقر إلى مفهوم حياة الشكر لله على كل نعمه وآلائه تجاهنا. فقط نخُّطُ عبارات " هذا من فضل ربي"، " وأما بنعمة ربك فحدّث"، و" بالشكر تدوم النعم"، ولكن في واقع الحال فإنّ أقل شيءٍ عندما هو حياةُ الشكر لله والعطاء الذي يُسهِمُ في حالةِ التكافل والتضامن الإجتماعي وتنمية المجتمعات ودعم الأعمال الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني. وهذا ما علينا أن ننمِّيه في بلداننا المشرقية وهو الشعور بالمسؤولية المجتمعية لأنَّ المجتمع هو بيتنا الكبير وتطوره وسلامته مصلحة فيها مصلحة للجميع.
وعن شكرنا لله يجب أن ينبع عن قلوبٍ مُحبّة لاعن حزن أو اضطرار "لأن المعطي المعطي المسرور يحبه الله". فالمحبة هي كلمة السر في حياتنا والتي تُعطِي لحياتنا معناها الحقيقي، وبدون المحبة تُصبح حياتنا خالية من معناها، مجردةٌ من مضمونها، وتسيرُ في حلقةٍ مفرغة ولا تؤدي إلى تقديم الشكر لله كما ينتظر الله منا..
فأي عمل نقوم به لا ينبع من المحبة لن يؤدي الغرض المقصود منه، وحتى عطاؤنا غير النابع بدافع المحبة لا قيمةُ حقيقيةُ له في نظر الله، لأنَّ قيمةَ العطاء مرتبطةٌ بدافعِ المحبة المرتبطة معه، فليست الهدية التي نقدمها للآخرين هي الأهم ولكن ما ارتبط مع الهدية مهما كانت بسيطة من مشاعر المحبة الصادقة النقية هي التي تجعل للهدية قيمتها المعنوية الكبيرة. لذلك فعندما نتكلم عن العطاء فنحن لا نتكلم عن الكمية بقدر ما نتكلم عن الدافع الحقيقي وراء العطاء، فالله المعطي لكلَّ شيء لا يحتاج منا لشيء إلا لأن تكونَ حياتُنا حياةً شكرٍ له مفعمةً بصادقِ المحبَّةِ النابعةِ من قلوبِنَا بأنَّ ما نقدِّمُهُ ونعطيه ونجود به لحاجة الآخرين ولتطوير المجتمعات إنما نقدمه بدافع قلبي، فَنسهمَ بذلك في سدِّ حاجةِ الآخرين ونزيد بذلك الشكر لله.
وكتبنا المقدسة تعلّمنا أن يكون عطاؤنا بقدر استطاعتنا وأن يكون من غير حدود، فمحبة الله لنا والتي فاقت كل الوصف نتعلم منها أن المحبة الحقيقية هي التي تعطي ما لذاتها، فالمحبة لا تعمل بمبدأ الربح والخسارة بل بإسعاد من تحب ومن غير حدود، وأن تكون بفرح ومسّرة، فمثل هذا العطاء هو الذي ينتظره الله منا، وهي الذبيحة التي ينتظرها منا "ذبيحة الشكر" التي تجد صداها من أجل كلِّ شيء صالح. فالعطاء أوسع وأكبر وأعمق من مجرد التبرع المادي أو العيني وإن كان التبرع المادي ضرورياً لسد حاجات أساسية في ظروف معينة، ولكنّه انعكاس لإيماننا وطاعتنا لله.
ولكن بالأكثر، العطاءُ يكون ببذل النفس في سبيل كلِّ عملٍ صالح. لذلك فحياتنا لله عنوانها حياة الشكر لله على الدوام، وهذا الشكر يجد صداه في حياة العطاء الذي ينبع عن قلوب محبة مستعدة أنْ تسيرَ طواعيةَ الميل الثاني في سبيل من تحب، لذلك لا يجدُ الإنسان ضيراً في السير في طريق التضحية، بل ويتحمل كلَّ الآلام وكل الصعوبات في سبيل إسعاده الآخرين والتخفيف عنهم والتضحية من أجل قضايا العدالة والسلام.
لذلك فحياتنا هي حياة عطاءٍ وعطاءٍ موصول وعطاءٍ كامل، وهذا العطاء يجب أن يكون في كلِّ قطاعات الحياة المختلفة بحسب المواهب المتعددة التي أنعم الله بها علينا وأولها لأجل الوطن، ولا حدود للعطاء ولا حواجز له إذ يتخطى الحدود الطائفية والعرقية واختلاف الأجناس والأعراق وأقرب ما يكون إلى مفهوم البيت الإنساني كما في تعريف قداسة البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب. فعطاؤنا يجب أن يكون للجميع بدون تمييز
فهل نصنع لنا نحن اليوم كنوزا لنا في السماء؟ أم أنَّ كلَّ همِّنا أنْ نكدس الثروات والمملكات حيث يُفسِد السوس والصدأ؟ لا أحد يقدر ينكر أهمية المال في تسيير أمور حياتنا، ولكن لنعترف أنَّ المال ليس وحده طريق تحقيق النجاح والسعادة والسلام. فالحقيقة أنَّ حياتَنا ليست من أموالنا، ولو كانت حياتُنا من أموالنا وثرواتنا لم احتَجْنَا الله في حياتنا، بل الحقيقية أنَّ حياتَنا هي من الله، ولضمانة سعادتها نحتاج أن نكون أغنياء لله.. أي أن نكنز لنا الكنز الثمين الذي يبقى ويدوم ويفيد حياتنا.. فما الفائدة من كل ثرواتنا عندما تُطلب أنفسنا منا في تلك الليلة.
أخيراً أقول، هي كلمة حق يجب أن تُقال أن الغنى هو هبة من الله .. وهو أمانة وجب صونه واستخدامه بما يخدم الإنسان والآخرين وحياة المجتمع. وأكبر جريمة يرتكبها الإنسان عندما يَشبعُ وغيره يجوع، عندما يتنعم وغيره يتألمه، عندما يسعد وغيره يتعس، عندما تتمحور حياته حول نفسه قائلا: "يا نفس لك خيرات لسنين عديدة. استريحي وكلي واشربي وافرحي".