تتوق نفوسنا وتشتاق إلى كثير من الأشياء والأماكن والأشخاص وخصوصاً الراحلين عنا إلى ديار الرب، وهذا الإشتياق مرتبط بتعلّقنا بهذه الأمور كلّها، وإلا لماذا نتكلم على مسقط الرأس وعن الأوطان وعن الأماكن التي عشنا فيها وترعرعنا فيها وقضينا فيها أجمل الأوقات وأمتعتها، وقضينا أجمل سني عمرنا مع أشخاص قريبين إلى قلوبنا وأرواحنا، فكيف إذاً لا تتوق إليهم نفوسنا وتشتاق إليهم بعد غياب؟
مثل هذا الإشتياق لا يقارن مع إشتياق النفس إلى خالقها وباريها، فقرب النفس من باريها هو مصدر فرحها وسعادتها، وفي بعدها عنه يكون مصدر شقائها وعنائها كما يقول المرنم في المزمور الثالث والستين "عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي كما في أرضٍ ناشفة ويابسة بلا ماء". فالنفس البشرية لا يمكن أن تهنئ بالسلام في بعدها عن الله وفي إقتراف ما يغضب قلبه. فكيف لهذه النفس أن تهدأ في الليل على فراشها وهي بعيدة عن إرضاءه وعمل مسّرة مشيئته؟ لذلك فعذاب النفس أشد وطأة من أي عذاب آخر ولا تقدر النفس البشرية أن تحتمله، وتبقى سعادة النفس بقربها من باريها في سعادة غامرة لا توصف كما يشبع الإنسان من الشحم والدسم.
فعندما نأوي إلى فراشنا ونتفكر بمعنى ومضمون حياتنا وبما قدّمناه وبما نقدمه عندها فقط نقدر أن نشعر بسعادة النفس أو بتعاستها، فالنوم الهادئ والهانئ هو من عند الرب ورضى ومسّرة من لدنه، لأنَّ النفس تسكن مطمئنة بفرح غامر لا يوصف وسكينة غامرة، وتبقى على الدوام بظل جناح القدير ملتمسة العون والقدرة.