بعد أن أنهيت ثلاثة أشهر من التدريبات العسكرية الأساسية ، وذلك على اثر التحاقي بالجيش لتأدية الخدمة العسكرية لمدة سنتين كمكلف ،تمّ اختياري من قبل الضابط المندوب عن القوات الخاصة للالتحاق بهذه القوات لقضاء الفترة المتبقية لي من الخدمة هناك ،وكانت اللياقة البدنية العالية هي الأساس في هذا الاختيار وذلك لما عرف عن قسوة التدريبات لأفراد القوات الخاصة .وتمَّ تحديد مكان خدمتي بمعسكر قيادة القوات.
وفي يوم وجدت نفسي أتمشى بطرفات المعسكر واضعاً كفّا يديّ في جيوب البنطال كون الطقس كان شديد البرودة ،وإذ برجل عسكري يناديني ويطلب مني أن أتوجه نحوه ، ففعلت ولما اقتربت منه وجدت أن الرجل كان يرتدي "فيلدة" عسكرية بدون أية رتبة على أكتافها .
فبادرني بالسؤال "هل أنت عسكري جديد هنا " فأجبته بنعم ،ثمَّ عاود وسألني " هل أنت نظامي أم مكلف " فأخبرته بأني مكلف ،تم سألني عن مؤهلي العلمي ،فأخبرته بأني مهندس كهرباء .
صمت الرجل قليلاً ربما لكوني كنت أول مهندس يخدم كمكلف بالقوات الخاصة ، ثم استرسل بمودة هذه المرة "ألا تعلم يا مهندس بأنه ممنوع أن تسير بشوارع المعسكر وأنت واضعاً يديك في جيوب بنطالك " فأخبرته بأني لا أعلم ذلك إلا منه الآن ولم أسأله عن سبب ذلك .
تمَّ بادرته بالسؤال "هل لي أن أعرف من تكون حضرتك " فضحك من أعماقه وربث على كتفي قائلاً "أذهب الآن وستعرف لاحقاً من أكون ،وأوصاني بأن أنتبه لنفسي قائلاً "لو أن ضابطاً آخر ضبتك وأنت تسير واضعاً يدك في جيبك فكان على أقل تقدير سيوبخك "
وبعدها قفلت عائداً بطريقي إلى الثكنة وإذ بأحد الجنود يستوقفني ويسألني عن ماذا كنت أتحدث مع قائد القوات الخاصة ،فأدركت على الفور أن الباشا طيب الأخلاق غازي الطيب هو من كنت أتحدث معه .ومع الأيام أكتشفت أن هذا الرجل وبالرغم من طيبة أخلاقه إلا أنه كان رجل عسكري متمرس لا يتوانى عن أتخاذ أي قرار في سبيل الحفاظ على الضبط والربط العسكري ،ولقد شاهدته يوماً يأمر ضباطاً كانوا يصعدون الى باص خاص بهم ،فطلب منهم النزول من الباص وأن يصطفوا في طابور وأمرهم بتأدية بعض الحركات الرياضية الصعبة لكونهم كانوا يصعدون إلى الباص بطريقة فوضوية ونبههم في في نهاية العقوبة بأن يلتزموا بالصعود إلى الباص بشكل منتظم مع مراعاة الرتب العسكرية والأقدمية فيمن يصعد أولاً فأول إلى الباص.
العبرة مما تقدم تكمن بأن جيشنا العربي الذي نعتز به لم يكن ليحافظ على سمعته الطيبة لولا الضبط والربط الذين رافقا مسيرة هذا الجيش ،فلا واسطات لترفيعات فوق العادة إلا لمن استحقها وبإرادة ملكية ،وليس كما يحدث في الحكومة ومؤسساتها من فوضى ومحسوبية وواسطات في اختيار المسؤولين والوزراء دون أية مؤهلات وخبرات تمكنهم من القيام بالمهام المناطة بهم ،مما أدى إلى تراكم الديون الهائلة على الدولة التي أصبحت اليوم على شفير الهاوية وبانتظار معجزة ربانية للخروج من هذا المأزق الخطير وغير المسبوق .