يترقب الصائمون في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك ليلة هي خير من ألف شهر، فيها تتنزل الرحمات وتعم البركات، فيها السكينة والسلام حتى طلوع الفجر، فينتظرها المسلمون مرة في العام بفارغ الصبر، حتى يعيشوا أدق تفاصيلها الروحانية في مشارق الأرض ومغاربها.
وفي نحو 7 آلاف و237 مسجدا أردنيا، يحيي المسلمون هذه الليلة العظيمة؛ تقربا إلى الله وطمعا بالخير الذي أودعه الله فيها، وألسنتهم تلهج بالدعاء والثناء على نعم الخالق التي لا تعد ولا تحصى، يسعون إلى تعزيز تكافلهم الاجتماعي في عبادتهم وطاعتهم.
ويدرك المسلمون أن أجر هذه الليلة عظيم، يعادل قيام هذه الليلة عبادة 83 سنة بحسب علماء الشريعة، بل هي خير من ذلك كما أخبرنا الله في كتابه الحكيم، فليلة القدر ليلة عامة لجميع من يطلبها، ويبتغي خيرها وأجرها، وهي ليلة عبادة وطاعة، وصلاة، وتلاوة، وذكر ودعاء وصدقة وصلة وعمل للصالحات، وفعل للخيرات، وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بشتى أنواع العبادة التي يحبها الله من عبده.
يقول الناطق الإعلامي ومدير وحدة الإعلام والاتصال في وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الدكتور علي الدقامسة لوكالة الأنباء الأردنية (بترا)، إن الوزارة وجهت الأئمة والمؤذنين إلى فتح المساجد في العشر الأواخر من رمضان بعد صلاة التراويح حتى صلاة الفجر، بالتنسيق مع مديريات الأوقاف، إحياء لتلك الليالي المباركة.
وأضاف أن هذه الليلة تكثر فيها الدعوات والصلوات والمواعظ، وتصلى فيها صلاة التراويح، في مساجد المملكة البالغ عددها نحو 7237 مسجدا، يتسع كل واحد إلى مئات المصلين، وفي ليلة القدر تمتلئ المساجد بالمصلين.
وأردف أن صندوق الزكاة يسهم في تحقيق التكافل الاجتماعي الذي يذهب ريعه لرعاية الأيتام بصرفه رواتب شهرية لهم، فضلا عن إسهامه في تقديم المساعدات العينية والنقدية للفقراء والمحتاجين، وكذلك في فتح مشاريع إنتاجية للأسر المحتاجة.
أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية الدكتور بسام العموش، قال "إن ليلة القدر جزء من عقيدة المسلمين حيث نزل فيها القرآن، وروحانيات تلك الليلة واضحة حيث يعتكف الناس في المساجد اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وسعيا لتركيز العبادة وكثرة الدعاء طمعا في نزول الخير من السماء كما نزل القرآن، إذ يدعو المعتكف ربه ويطلب ما يشاء ويرجو استجابة الله له.
ولفت إلى أن تلك الليلة الروحانية يمتزج فيها العلم مع الروح، وينبه الوعاظ والمرشدون الناس، ويجيبون عن أسئلتهم ليعبد المسلم ربه على علم ودراية، ففي ليلة قال الله تعالى عنها (ليلة القدر خير من ألف شهر)؛ أي العبادة فيها ذات أجر عظيم تعادل ما يقرب من 83 سنة، لورود النص القرآني بتفضيلها على ألف شهر من العبادة، داعيا المسلم أن يتفرغ فيها للعبادة، ولا يضيع هذا الوقت العظيم.
وفي هذا السياق، قال مفتي عام المملكة الشيخ عبد الكريم الخصاونة، إن ليلة القدر هي ليلة نزول القرآن الكريم على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، لأمة ذات قدر.
وأضاف أن هذه الليلة المباركة لم تشهد الأرض مثل عظمتها وقدرها ودلالتها، سجلها الوجود كله في فرح وابتهاج وابتهال، ومن قام هذه الليلة العظيمة إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن أتى فيها بفعل الخيرات والطاعات كانت له عند الله تعالى خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وبين أن وجه التفضيل الحقيقي لهذه الليلة هو نزول القرآن الكريم فيها لقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، والصحيح عند ابن حجر في شرح البخاري، كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن القرآن الكريم أنزل في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، أو هي الليلة التي بدأ نزول القرآن الكريم فيها على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أو هي الليلة التي أمر الله تعالى القلم أن يكتب القرآن الكريم في اللوح المحفوظ.
وأوضح أن ليلة القدر هي الليلة المباركة التي تنزل فيها القرآن الكريم منبعا للخير ومصدرا للهداية والنور، يهدي للتي هي أقوم، لذلك قال تعالى في شأنها (وما أدراك ما ليلة القدر)، أي أن دراية علومها ومنزلتها خارج عن دراية الخلق، ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب، قال الخازن: "هذا على سبيل التعظيم والتشويق لخبرها كأنه قال "أي شيء يبلغ علمك بقدرها ومبلغ فضلها".
وأشار إلى مذهب الإمام الشافعي بأن ليلة القدر ليلة ثابتة معينة لا تنتقل، لكن هناك روايات تعارض في تحديدها بليلة، لكن كثيرا من العلماء يميل إلى قول الشافعي، فهذا يتناسب مع أوصاف تلك الليلة التي خصها الله تعالى وعينها وحددها منذ الأزل لتنزل القرآن الكريم فيها.
وعن علامة ليلة القدر، أشار الخصاونة إلى ما رواه الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمرا ساطعا ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ.
أستاذة التفسير وعلوم القرآن في الجامعة الأردنية الدكتورة يسرى اليبرودي، أكدت أن فكرة الاعتكاف تنطلق من حديث رواه مسلم في صحيحه، عن أبي موسى الأشعري قال "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم ".
وبينت أن حديث النبي عليه السلام أيضا الذي رواه مسلم في صحيحه قال "طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة"، ففي هذين الحديثين يبين النبي صلى الله عليه وسلم مسألة التكافل الاجتماعي بين المسلمين، وأن النبي عليه الصلاة والسلام يربي الناس على الألفة والمحبة والإيثار فيما بينهم، سواء أكان هذا الإيثار بالنفس أو بتقاسم المال أو الطعام أو الشراب.
وأضافت، ففي الحديث طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة، يريد بذلك مسألة التغذي ورد عضة الجوع، وليس المقصود به الشبع، وهذا إرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلى الاجتماع على الطعام لما فيه بركة عظيمة تجعل من القليل كثيرا، فينمو الطعام ويزداد حسا ومعنى، وتتضاعف قواه الغذائية ويكفي القليل منه الكثير، وهذا فعلا ما يحدث في الاعتكاف في ليلة القدر.
وتتحقق هذه الفوائد كذلك من خلال التسلية عن المهموم والمديون والمصاب والمبتلى، عندما يتجاذب الناس أطراف الحديث ويتحدث كل منهم عما يعانيه فتكون هذه الليلة سببا في حل مشكلاتهم وإدخال السرور على قلوبهم، وهذه العبادة من أعظم العبادات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، سرور تدخله على قلب مسلم -كما ورد أيضا في الحديث الصحيح- "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا".
بفكرة الاعتكاف، يتحقق التكافل الاجتماعي في شتى جوانبه، وهذا الذي يجب أن يكون ليس فقط في ليلة القدر، وإنما في العشر الأواخر من رمضان، بل في أيام السنة كلها، يجب أن يكون هذا النوع من الدفء الاجتماعي واجتماع الأسرة الكبيرة في المجتمع بأكمله، يتعاهدون فيما بينهم، يتفقد الغني منهم الفقير ويكون معطاء، ويعين الناس بعضهم على قضاء حوائجهم وحل مشكلاتهم، بحسب اليبرودي.