ما زالت الولايات المتحدة القوة والدولة الكبرى الأكثر نفوذاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأمنياً لدى العالم العربي، وذلك بواسطة علاقاتها الاستراتيجية أولاً مع المستعمرة الإسرائيلية، وثانياً مع بلدان الخليج العربي، وثالثاً مع كل من العراق ومصر والمغرب والأردن وغيرهم.
ولكن الولايات المتحدة، لن تبقى خارج التاريخ، خارج الاستثناء، ولن تبقى القطب الوحيد المتمكن بالمشهد السياسي على الصعيدين الدولي والإقليمي في منطقتنا العربية، وهذا ما عبر عنه مدير المخابرات الأميركية وليام بيرنز قوله: "أن الولايات المتحدة ستبقى على الطاولة، ولكنها لن تبقى على رأس الطاولة كما هي"، وكما كانت منذ نهاية الحرب الباردة عام 1990.
لم يحدث انقلاب سياسي في العالم، أو حرباً كونيةً تم هزيمة الولايات المتحدة فيها وخلالها، ولكن دورها وتأثيرها في منطقتنا يتراجع لسببين:
أولهما قرار إدارة الرئيس بايدن بتغيير أولوياتها نحو منطقة جنوب شرق آسيا وغيرها، ذلك أن مصالح الولايات المتحدة في العالم العربي لم تعد لها الأولوية لعدة أسباب:
1- لم يعد النفط السلعة الاستراتيجية الأكثر أهمية مع وجود البدائل: الغاز والصخر الزيتي والطاقة الشمسية لديها.
2- لم تعد المستعمرة موضع استهداف خطر من قبل أي طرف عربي: فالانقسام الفلسطيني، وضعف البلدان العربية المحيطة بفلسطين خاصة سوريا والعراق، وحالة التطبيع السائدة، جعلت تل أبيب هي صاحبة المبادرة الهجومية على الآخرين، ولا ينتابها أي قلق خارجي، وهذا لا يجعل من حضور الولايات المتحدة أهمية في منطقتنا.
3- استمرارية انفتاح السوق العربي للسلع الأميركية، وليس لدى واشنطن ما تخشاه، وإن كانت أسواق أخرى أكثر أهمية وحيوية من السوق العربي للمنتوجات الأميركية.
4- ما زال الدولار العملة السائدة المستعملة المعتمدة لدى مُنتجي النفط الأوائل، ولا زالت البنوك الأميركية هي موقع الجذب للمدخرات الخليجية.
أما السبب الثاني الذي تشير مقدماته إلى تراجع تدريجي للنفوذ الأميركي مهما بدا بطيئاً، لدى العالم العربي، يتمثل بمجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية، برزت فاقعة في نجاح الوساطة الصينية بين السعودية وإيران وعودة العلاقات بينهما، سبقها مجموعة من الصفقات الاقتصادية التي تم التوصل إليها بين كل من قطر والإمارات والصين تُشير إلى تغير جوهري في خيارات التسويق الخليجي نحو السوق الصيني وغيرها من المظاهر.
فقد رفضت العربية السعودية طلب الولايات المتحدة زيادة الانتاج النفطي، ولكنها بدلاً من أن تستجيب للطلب الأميركي، فقد فعلت العكس، حيث قررت تخفيض نسبة الإنتاج بالتنسيق مع مجموعة "أوبك زائد".
كما عقدت الإمارات العربية صفقة توريد الغاز الطبيعي المسال مع الصين محسوبة لأول مرة بالعملة الصينية "الليوان" وليس بالدولار الأميركي.
مثلما توصلت قطر لصفقة بيع الغاز الطبيعي المسال مع الصين بقيمة 60 مليار دولار لمدة 27 عاماً.
هذه الوقائع الاقتصادية البارزة الهامة جعلت الرئيس الأميركي يعتبر أن الصين هي الخصم والعدو الأول للمصالح الأميركية على مستوى العالم، مما يشير إلى حالة التحول التدريجي لولادة عدة أقطاب تتحكم بالمشهد السياسي والاقتصادي العالمي، وفقدان الولايات المتحدة لحالة التميز والتفرد في إدارة السياسة الدولية.