المسيرة التي بدأها سبعون رجلا أو يزيد قليلا منذ أكثر من 1444 عاما بأيام قليلة، قُدِّر لها أن تغيّر مسار الزمان والمكان، ومع مجيء الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بدأ التأريخ الإسلامي بيوم الهجرة.
تلك الهجرة المباركة التي شكلت في عقل ووجدان الإنسانية أعظم الرسالات السماوية وخاتمتها، وقبل هذا اليوم ثلاثة عشر عاما هي عمر الدعوة في مكة المكرمة، سنوات من الإيمان والصبر والقدرة على مواجهة الأهوال التي تعرّض لها نفر من المؤمنين بالرسالة المحمدية، وما بعدها عشر سنوات من بناء الدولة التي بدأت برجل وانتهت بأمة قوامها اليوم أكثر من ملياري مسلم.
هذه هي قصة فيلم (الرسالة) الذي قدّمه المخرج العربي السوري مصطفى العقاد عام 1976، من إنتاج شركته السينمائية التي قدّمت أيضا فيلمه التاريخي الآخر (أسد الصحراء عمر المختار) عام 1980، وشارك في كتابة فيلم الرسالة مع مخرجه خمسة من كبار الكتّاب المصريين والعرب، هم عبد الحميد جودة السحار وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمد علي ماهر ومحمد ناصر السنعوسي، وأيضا كاتب السيناريو الأيرلندي هاري كريج.
يبدأ فيلم الرسالة منذ بلوغ الرسول الكريم ﷺ سن الأربعين وتعبّده في غار حراء، ويستعرض الفيلم حال القبائل العربية قبل الرسالة، ودور مكة ومكانتها بين القبائل العربية، إنه صراع الإيمان بالرسالة وقوتها وصمود المؤمنين بها، والسلطة والمصالح في مكة.
كان نزول الوحي على الرسول ﷺ إيذانا بهدم ممالك ودول بدأت من مكة وانتهت بسقوط الروم والفرس ومصر، وتلك هي محطات الرسائل التي أرسلها النبي بعد صلح الحديبية مع مكة إلى ملوك هذه البلاد، ولكن المعركة الكبرى كانت معركة تأسيس الدولة التي كانت مكة بدايتها، فقد حاربت مكة بكل قوتها هذا الدين الجديد الذي يهدم بناءها القائم على العبودية والظلم والفجور، ليبني بناء قائما على العدل والمساواة والإخاء، ولولا إيمان المسلمين الأوائل ما كان لهذه الأمة التي تمضي في طريقها إلى سيادة العالم.
يشير الفيلم إلى قوة الإيمان التي تمتع بها الصحابة الكرام، ويقدّم نماذج في الصحابي الجليل عمار بن ياسر، هذا الفتى الذي تحمّل ما لا يمكن تحمّله، فقد هاجت مكة مع صلابة الصحابة والمؤمنين الأوائل، وقرر كبارها معاقبة الضعفاء منهم حتى العودة إلى عبادة الأصنام.
كان عمار فقيرا لأبوين فقيرين آمنا معه، حبس أبو جهل وأمية بن خلف المسلمين من عبيد قريش وضعفائهم، وبدأوا تعذيبهم، وكان أن استشهد ياسر وسمية والدا عمار، ورغم هول الكارثة على نفس فتى مثل عمار إلا أنه ثبت وصبر واحتمل، لم يتزحزح إيمانه وكان مقاتلا في صفوف من حملوا الرسالة حتى استشهاده في موقعة صفين.
يعادل موقف عمار موقف حذيفة بن عتبة، الصحابي الذي كان من أوائل المسلمين، وهو ابن عتبة وأخو الوليد، وهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، لقد شهد حذيفة مقتل والده وأخيه وعمه في معركة بدر، إلا أن إيمانه كان أقوى من حزنه الإنساني، إنها قوة الإيمان بالله، والصبر على الآلام الشخصية في سبيل الرسالة.
كانت الرسالة المحمدية هدما لكل ما يمثله سادة قريش من قوة وسيادة وتجارة وسلطة على القبائل العربية، ولذلك كانت مقاومة قريش وسادتها للدعوة المحمدية بكل ما أوتوا من قوة، حاولت قريش إغراء الرسول ﷺ بالمال والسلطة والجاه والملك.
كان على قريش أن تستخدم طريقا آخر هو الانتقام لسيادتها ومكانتها وتجارتها، فبدأت رحلة انتقام طويلة من المسلمين من التعذيب إلى المقاطعة والقتل، والحرب في كل اتجاه.
طاردت قريش دعوة الإسلام، وحاربتها في شعاب مكة، حاصرتها في شعب أبي طالب ثلاث سنوات كانت هي الأصعب في حياة الدعوة، فقد خلالها الرسول السيدة خديجة وعمه أبا طالب، وكانا سندا كبيرا له، في عام سُمّي عام الحزن.
خرج الرسول ﷺ بعد عام الحزن إلى الطائف، لكن أهلها خذلوه، لاحقت قريش الذين هاجروا إلى الحبشة، ولكنهم فشلوا في إعادتهم عن طريق عمرو بن العاص قبل إسلامه.
ما بين الآلام والأحزان في كل موقف وآخر كان يأتي نصر من الله، فبينما يعود الرسول من الطائف يأتي وفد يثرب ليبايعه، وحينما يذهب عمرو بن العاص إلى النجاشي، وفي مناظرة بينه وبين جعفر بن أبي طالب، ينحاز النجاشي ملك الحبشة إلى المؤمنين المهاجرين إليه، وحينما يشتد حصار قريش للمسلمين في شعب أبي طالب، يستنكر بعض أهل مكة هذا الحصار، ويذهبون إلى الكعبة ليمزقوا الصحيفة فإذا بها قد أكلتها قرادة صغيرة.
ثلاثية خالد وعمرو وأبي سفيان
هي ثلاثية العقل والفكر للوصول إلى الحقيقة، ثلاث شخصيات كتبها فريق فيلم الرسالة بتمكن واقتدار.
الشخصية الأولى أبو سفيان، كانت أزمة الشخصية هي لماذا محمد؟ والتجارة والسيادة، وكان دائم التفكير في الرسالة المحمدية، عانى أبو سفيان كثيرا بين العقل والمكاسب الشخصية، وعندما وصل إلى حقيقة ما كان يعبد، وأيقن أن الرسالة هي الحق أعلن إسلامه.
عمرو بن العاص وخالد بن الوليد من فرسان قريش وسيوفها، ومن عقولها الراجحة، كانت هزيمة عمرو أمام النجاشي بداية التفكير في ما قاله جعفر من حكمة إسلامية وآيات قرآنية أقنعت النجاشي وهزت عقل عمرو، فمضي هو وصديقه ابن الوليد -بطل معركة أحد- في تتبّع القيم الإسلامية حتى هداهما الله فكانا نصرة قوية للإسلام.
في مشهد عبقري صوّره مصطفي العقاد لإسلام عمرو وخالد، الذي يخلع زينته وملابسه بين يدي الرسول ﷺ، ويخلع سيفه، لكن الرسول يأمره أن يكون سيفه للإسلام بعد أن كان عليه، بينما عمرو بن العاص يعلن إسلامه محتضنا جعفر الذي أقنعه عقلا في مناظرته أمام ملك الحبشة.
ثنائية حمزة وهند
الشخصيتان الأبرز طوال أحداث الفيلم كانا حمزة بن عبد المطلب أسد الإسلام وعم الرسول، كان حمزة يلقب بصائد الأسود، وكان إسلامه قوة للمسلمين الأوائل، قاد مع الرسول ﷺ مرحلة البناء الأولى، دافع عن الضعفاء من المسلمين في مكة.
قادهم في العامين الأولين في المدينة، يعلمهم القتال، ويخطط لهم منفذا أوامر الرسول حتى استشهاده في غزوة أحد، وقد أدي الشخصية ببراعة فائقة الممثل العربي الكبير عبد الله غيث.
هند بنت عتبة هي الشخصية المناظرة لحمزة في الأحداث وفي الفيلم، زوجة أبي سفيان تأخذ موقفا عدائيا من الدعوة، تقاطع أخاها حذيفة مع أبيها عتبة وأخيها الوليد اللذين يُقتلان في بدر على يدَيْ حمزة وعلي بن أبي طالب، فتستأجر "وحشي” العبد الحبشي لقتل حمزة في أحد، وقد أدت الممثلة السورية منى واصف دور هند بنت عتبة ببراعة.
الرسالة فيلم زاخر بالفِرق السينمائية الفنية العربية والأجنبية في التصوير والمونتاج والإنتاج والديكور وتصميم الملابس والموسيقى والأداء الصوتي وعدد كبير من الممثلين الذين أدوا ببراعة في كل مشاهد الفيلم مهما كان حجم أدوارهم.
يظل فيلم الرسالة -الممتد لمدة ثلاث ساعات ونصف ساعة- علامة في تاريخ مخرجه مصطفى العقاد، كما فيلمه عمر المختار، وقد تكلف الفيلم 10 ملايين دولار.
إن الفيلم هو قصة الرسالة التي بدأها أربعة أفراد، وصارت رسالتهم أمة يمتد المؤمنون برسالتها إلى كل بقاع الأرض، قصة الإيمان والصبر والنصر.