يقابل المرء في رحلته بالحياة الكثير من الأشخاص ، ويتعرض معهم للعديد من المواقف ، وكل مرء بمكانته يقاس ، وبطريقته يُساس ، والتي تختلف حسب الأعمار والأجناس ، وتتأثر بالأصحاب والجلاّس ، وهي الفطرة التي خُلِقنا عليها من الأساس ... .
ولكننا وخلال هذه الرحلة نتعرض للكثير من الصدمات ، ونصاب بالعديد من الخيبات ، ونمُّر بالعثرات ، ونتوه بالطرقات ، ونبحث عن الآخرين حولنا ، لنشاطرهم الأحزان ، ونشاركهم الأفراح ، فيحملون معنا ونحمل معهم ، ونعطيهم ونأخذ منهم ، ونحافظ على ما لنا ، ونترك ما لهم ، فلا يستغنون عنا ولا غنى لنا عنهم ، فالإنسان اجتماعيٌّ بطبعه وهذا من الفطرة التي جُبِلنا عليها منذ بدء الخليقة ، فالوحدة أمرٌ ليس هناك من يطيقه ، ولا يبحث عنها إلا من خرج عن السليقة ، وأطفأت الهموم بريقه ... .
وبالرغم من كل ذلك ، ومع كثرة الأشخاص حولنا ، وأهميتهم لنا ، واختلاف علاقتنا بهم حسب دورهم فيها ، والتي تتذبذب حسب المواقف والأدوار التي يؤدونها أو نؤديها ، فإما أن تقطع الصلات أو أن تقويها ، أو أن تتلاعب بها فتجذبها تارة ، وأخرى سترخيها ، وهناك من يغادرها اختيارا ، ومن يغادرونا وتظل ذكراهم لتحييها ، ومن يدخلها حبّا وحرصا ومن حبنا له يظلُّ باقياً فيها ، وقد يكونوا قِلّة في حياتنا وقد يكثروا حتى تطيب بهم الحياة ، وتصبح ضحكاتهم وقودنا ، ونظراتهم للسعادة تقودنا ، وإحساسهم بنا يجعلنا نكسر معهم حدودنا ، وقربا منهم بالسعادة يزيدنا ، فيلين معهم حتى عنيدنا ، حتى نجد أنفسنا على استعداد لأن نبذل لأجلهم كل رصيدنا ، ولا نمانع إن خسرنا عليهم جُلَّ نقودنا ، فهم ربحنا وحصادنا ، وبقاؤهم أكثر من المال يفيدنا ، فنحن دوما نحرص على من يريدنا ، وتلك فطرة غّرِست بنا منذ وجودنا ... .
فهذه هي الدنيا تجمع وتطرح ، وتقسم وتفرق ، وتضرب في الأعماق ، وتُقسِّم الأرزاق ، تارة تكسر المشاعر ، وتارة تجبر الخواطر ، واليوم ترسم دروبنا ، وغدا تُحَطِّم قلوبنا ، ولا ندري أفيها العيب أم أن تلك عيوبنا ، بانت لتؤدبنا أو لِنُكَفٍِر بها عن ذنوبنا ... .
وكما قال الشاعر :
هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي
فها هي قد حذّرت ، فإن بطشت فقد أُعذِرت ، وإن فتكت فقد نبّهت ، وإن أعطت فلتبتلي ، وإن أخذت فلتنجلي ، وعن صعوبة امتحانها لا تسأل ، فلجانها لا تُقْفَل ، ولأهميتها وضرورة خوضها لا تجد شخصاً ينكر ، ولا عاقلا يجهل ، فكن دوماً على استعداد لتتجاوز ، والاستعانة بالأصدقاء في شرعها جائز ، ولكن لنذكر أننا سنكون فرادى وقت الجنائز ، فمن رحل منها بلا عيوب ، وغادرها بلا ذنوب ، ولم يكن لأي حق لأهلها مطلوب ، فهو الفائز ، إن رضي عنه علاّم الغيوب ، فهو أدرى بحال القلوب عندما حان الغروب ... .
فاعمل على أن تكون بدرا عندما تغيب شمسك ، وأن تظل فخرا لذويك عندما يُذكر اسمك ، وأن تعيش دهرا بطيب ذكرك وإن غاب رسمك ، وما زال هذا قرارك طالما عقلك برأسك ، ومصيرك محض اختيارك فلا تترك هذا لحدسك ، تلك الجنان تهيأت فاهنأ بها فقد سبقك إليها عملك ، وستجد فيها يومك وأمسك ، فإن كنت تريدها فعن العصيان أمسِك ، وباب التوبة مفتوحا ، ها هو دونك فانجو بنفسك.