أصبح استخدام منصات التواصل الاجتماعي جزءاَ أساسياً من الحياة اليومية لكثير من الأشخاص في العالم، وخصوصاً الشباب منهم الذين يعتبرون اليوم، القوة المحركة للاتصال الإلكتروني في العالم.
وتشير الأرقام التي نشرتها الأمم المتحدة، إلى أن عام 2023 شهد استخدام منصات التواصل عبر الإنترنت، من قبل ما نسبتهم 79 بالمئة، من الفئات العمرية بين 15 و24 عاماً حول العالم، مقارنة بما نسبتهم 65 بالمئة من مختلف باقي الفئات العمرية.
ورغم أن منصات التواصل الإجتماعي توفّر للشباب، فرصاً للتواصل اليومي واستقبال المعلومات والتعبير عن أفكارهم وتوجهاتهم، إلا أن الجانب السلبي في هذا الأمر، هو أن الفرص التي توفرها هذه المنصات باتت مصحوبة بمخاطر جسيمة، تتثمل بخلق الشعور لدى الشباب، بأنهم غير مكتفين على المستوى المالي، وذلك حتى لو كانوا في حالة مالية جيدة نسبياً.
وبحسب تقرير نشره موقع "سي إن بي سي"، فقد أظهرت الدراسات أن رؤية الشباب لأنماط "الحياة الفاخرة"، التي يعيشها زملاء لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، جعل العديد منهم يكتسبون نظرة مشوهة عن حقيقة وضعهم المالي، ما أصابهم بما بات يُعرف بـ "خلل التشوه المالي"، أو "خلل البنية المالية"، وهو خلل يعاني منه قسم كبير من الشباب، ويدفهم لتصوير أنفسهم على أنهم ناجحون، من خلال امتلاك الساعات باهظة الثمن، أو السيارات الجميلة، والإنفاق على المشاريع المكلفة.
ما هو "خلل التشوه المالي"؟
وفقاً لشركة التمويل الأميركية Credit Karma، فإن ما يقرب من ثلث الأميركيين، أو 29 بالمئة منهم، يعانون من "خلل التشوه المالي"، الذي يمنحهم نظرة مشوهة عن وضعهم المالي الحقيقي، ما يجعلهم يشعرون بعدم الكفاية من الناحية المالية، عندما يقومون بمقارنة وضعهم مع أوضاع الآخرين.
ويكشف تقرير Credit Karma أن "خلل التشوه المالي" أكثر انتشاراً بين الأجيال الشابة، إذ تظهر البيانات أن ما يقرب من 43 بالمئة من الجيل "زد"، وهم الأشخاص المولودين في الفترة بين 1997 حتى 2012، ونحو 41 بالمئة من جيل الألفية في أميركا، يعانون من مقارنة أنفسهم مع الآخرين، ويشعرون بالتخلف المالي.
ورغم أن هؤلاء لديهم مدخرات أعلى من المتوسط، إلا أنهم باتوا مهووسين بفكرة الثراء.
ورغم أن "خلل التشوه المالي" كان موجوداً في السابق، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي، نقلته إلى مستوى جديد تماماً، حيث وجدت دراسة أجرتها شركة Edelman Financial Engines علاقة قوية بين الشعور السيء للفرد تجاه وضعه المالي، ومقدار الوقت الذي يقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي.
ووجدت الدراسة أن ما يقرب من ربع المستهلكين الذين شملهم الإحصاء، يشعرون بقدر أقل من الرضا عن مقدار الأموال التي يمتلكونها بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، والضغط الذي تفرضه عليهم، لناحية الإفراط في الإنفاق على العناصر باهظة الثمن، مثل العطلات أو تجديد المنزل أو السلع الفاخرة، وذلك لمواكبة أنماط "الحياة الفاخرة" التي يعيشها البعض على مواقع التواصل.
وتقول الأخصائية في علم النفس العيادي دارين عماش، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن خلل التشوه المالي يُعتبر ظاهرة نفسية، تتمثل في اكتساب الفرد لانطباع مشوه عن وضعه المالي الحقيقي، نتيجة مقارنة وضعه بالآخرين، وخاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرة إلى أن أعراض هذا الخلل تتمثل بالنقاط التالية:
القلق والضغط النفسي: يسبب خلل التشوه المالي القلق والضغط النفسي للأفراد، ويخلق لديهم شعوراً بعدم الرضا عن الوضع المالي والمقارنة المستمرة بالآخرين.
انخفاض الثقة بالنفس: يؤدي هذا الخلل إلى انخفاض الثقة بالنفس والشعور بالفشل، خاصة عندما يتعلق الأمر بتحقيق الأهداف المالية.
الإنفاق المفرط: يقوم المصابون بهذا الخلل، بالإنفاق المفرط، في محاولة لمواكبة أنماط حياة الآخرين التي يرونها على وسائل التواصل الاجتماعي.
الشعور بعدم الكفاية المالية: يعاني الأشخاص المصابون بخلل التشوه المالي، من الشعور بعدم الكفاية المالية، حتى لو كان لديهم دخل مالي جيد.
أسباب انتشار هذا الخلل
ترى الرئيسة التنفيذية والمؤسِسة لتطبيق Mindsome دارين عماش، أن سبب انتشار خلل التشوه المالي بين الشباب، يعود لتعرض الشباب لضغوطات اجتماعية، تدفعهم لمقارنة أنماط حياتهم بأنماط الحياة الباهظة التي يشاهدونها على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعمل هذه الوسائل على تعزيز ثقافة الاستهلاك والإنفاق المفرط، مما يؤدي إلى زيادة الضغوط المالية على الشباب، الذين باتوا يفتقرون إلى التوعية المالية الكافية، لفهم وضعهم المالي الحقيقي وتحديد أولوياتهم المالية.
وتعتبر عماش أن تأمين الحماية ضد خلل التشوه المالي يكون بتعزيز التوعية المالية، وخاصة لدى الشباب، من خلال تشجيعهم على فهم أهمية كيفية إدارة الأموال بشكل صحيح، عبر تحديد أولوياتهم المالية والتركيز على تحقيق الأهداف الحقيقية، بدلاً من محاولة مواكبة أنماط حياة الآخرين، إضافة إلى ضرورة الابتعاد وتجنب المقارنة المستمرة مع ما يظهر على وسائل التواصل.
من جانبه، قال الأستاذ الجامعي والخبير في مواقع التواصل الاجتماعي، فيليب أبوزيد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن خلل التشوه المالي مشكلته مرتبطة بتأثير المقارنة الاجتماعية، أي عندما يقوم الفرد بمقارنة حياته بحياة الآخرين، بناءً على الصور والمقاطع التي يتم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.
وأضاف: "هنا يجب على الجميع إدراك "الحقيقة المخفية، وهي أن الناس لا تشارك الجانب السيء من حياتها على الإنترنت، فكافة المستخدمين يقومون بإظهار أفضل ما لديهم، فإذا قمنا بمقارنة حياتنا بالصور التي نراها على وسائل التواصل الاجتماعي، فبالتأكيد سنشعر أننا نعاني من نقص وضعف يمنعنا من شراء السيارات، والقيام برحلات سفر وما الى ذلك من أمور تحتاج لإنفاق كبير".
أساليب معالجة هذا الخلل
يرى أبوزيد أن معظم ما يراه مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي هو مجرد عملية تمثيل، فهذه المواقع منحت الأشخاص القدرة على تركيب محتوى غير دقيق، يُظهر مدى تمتعهم بالمال، في حين أن الحقيقة تكون عكس ذلك.
وقال: "المقارنة في هذه الحالة لا تؤدي فقط للإصابة بخلل التشوه المالي، بل أيضاً تصيب بالاكتئاب والإحباط والشعور بالنقص، وقد يصل الأمر إلى دفع الأفراد للسعي لمخالطة الأشخاص الأغنياء، لاعتقادهم أن هذا الأمر سيساعدهم في أن يصبحوا أغنياء أيضاً".
وشدد أبوزيد على أن معالجة هذه الظواهر يكون بالابتعاد عن أسلوب المقارنة، ونشر الوعي والتثقيف، من خلال إدراج مناهج تربوية جديدة، لتوعية الشباب على هذه المشكلة التي باتت تنتشر في العالم أجمع.وقال المحلل الاقتصادي، محمد الحسن، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن ظاهرة الرغبة الجامحة بالثراء السريع تتفاقم لدى شريحة كبيرة من الشباب حول العالم، فمظاهر الثراء والحياة الفاخرة التي يظهرها البعض على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة على "تيك توك" وإنستغرام، ساهمت بانتشار "خلل التشوه المالي" بين الأفراد، الذين باتت تراودهم أحلام الثراء السريع.
وأضاف أن المستخدمين يعتقدون أن الأمر سهل وبمتناول أيديهم، ولكنهم وعندما يجدون أنهم غير قادرين على تحقيق ذلك، يضعون أنفسهم في مقارنة غير عادلة وغير حقيقية، تشعرهم بأنهم فقراء، في حين أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً.
ويوضح الحسن أنه لطالما اقترن استمرار الوجود الإنساني بفكرة العمل، أي أن يبذل الإنسان جهداً مقابل الحصول على أجر ما، يساعده على تلبية احتياجاته، وهذا الأمر لا يزال مطبقاً حتى اليوم، ولكن الجموح في الإنفاق الذي يظهره البعض على وسائل التواصل، والذي قد لا يكون حقيقياً، شجع الكثير من الأشخاص على التبذير في الإنفاق بأكثر من إمكاناتهم، وهذا ما جعل هؤلاء يشعرون أنهم فقراء وهذا الاعتقاد مشوه، فعدم زيارة المطاعم بشكل يومي، لا يعني أن الشخص فقير، وعدم تجديد الهاتف خلال عدة أشهر لا يعني الفقر، وعدم السفر شهرياً أيضاً لا يعني أن الفرد فقير.
وأضاف: "ما يجب التركيز عليه هو أن اكتساب المال، يحتاج للجهد والعمل، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه في ظل مستويات الإنفاق، التي نراها لدى البعض على وسائل التواصل".