نيروز الإخبارية : دراسات استراتيجية سياسية وعسكرية.....الحلقة الرابعة
قائد الثورة العربية الكبرى ومفجر رصاصتها الأولى
الفكر الاستراتيجي السياسي للشريف الحسين بن علي دراسة محكََّمة أعدها اللواء الركن المتقاعد الدكتور محمد خلف الرقاد مدير التوجيه المعنوي الأسبق والملحق العسكري الأردني في القاهرة الأسبق ، وشارك فيها الباحث كدراسة محكمة في مؤتمر المئوية الأولى للثورة العربية الكبرى (1916 – 2016 ) الذي عقد في رحاب جامعة آل البيت – كلية الآداب والعلوم الإنسانية خلال الفترة من 10 - 11 أيـــار ( مايو ) 2016م ، وستصدر هذه الدراسة ضمن الدراسات التي قُُدِمت للمؤتمر في كتاب محكم عن جامعة آل البيت ، وستنشر وكالة النيروز الإخبارية هذه الدراسة على عدة حلقات تتحدث في كل واحدة منها عن جانب من جوانب الفكر الاستراتيجي السياسي للشريف الحسين بن علي كزعيم للعرب وكقائد للثورة العربيةالكبرى ومفجر رصاصتها الأولى .
بحث ودراسة :اللواء الركن المتقاعد
د . محمــــــد خلـــف الرقــــــــــــــاد ...مدير التوجيه المعنوي الأسبق
الحلقة الرابعة
تميز الفكر الاستراتيجي السياسي للشريف الحسين بن علي بـ : النسق العقيدي المستقل ، إدراك مرامي البريطانيين والتمسك بعقائده السياسية ، الوضوح في الرؤية السياسية ، والشورى في اتخاذ القرار .
كان هدف الشريف الحسين إقامة الدولة العربية المستقلة ، بينما كان هدف بريطانيا وحلفاؤها الهيمنة على المنطقة العربية .
لم يتخل الشريف الحسين عن مواقفه ولا عن مبادئه، وأدّى دوراً مشرفاً في السعي لتحقيق الاستقلال للعرب .
فكر الشريف الحسين الاستراتيجي السياسي . يمكن للدراسة أن تلخص فكر الحسين الاستراتيجي السياسي في هذه المراسلات من خلال نقاط رئيسة وعلى الشكل الآتي:
أ . وضوح الرؤية السياسية: تشير النصوص والوثائق والمراسلات إلى أن الشريف كان ذا رؤية سياسية واضحة، وعلى درجة عالية من الاستقلال في فكره السياسي، ونقرأ ذلك في النص الآتي من رسالته الأولى الموجهة إلى السيد هنري مكماهون، وقد جاء فيها بخصوص حدود الدولة العربية المستقلة: " أن تعترف انجلترا باستقلال البلاد العربية من مرسين- أضنة ، حتى الخليج شمالاً، ومن بلاد فارس حتى خليج البصرة شرقاً، ومن المحيط الهندي للجزيرة جنوباً، يستثنى من ذلك عدن التي تبقى كما هي، ومن البحر الأحمر والبحر المتوسط حتى سيناء غرباً، على أن توافق انكلترا أيضاً على إعلان خليفة عربي على المسلمين".
ب . إن الطرف البريطاني المباشر في معادلة الحوار العربي- البريطاني في الرسائل كان متذاكياً إلى درجة يمكن فهمه على أنه واحد من اثنين:
(1) ليس طرفاً رئيساً في اتخاذ القرار السياسي، بل كان يشكل جزءاً من منظومة وهياكل صنع القرار في بريطانيا، وقد يعتمد متخذ القرار في لندن توصيته وقد لا يعتمدها ولا يأخذ بها، وهذا ما جعل نتائج المراسلات على هذا الوجه الذي انتهت عليه.
(2) أنه مراوغ، ولا يهمه نكث الوعود، وليس من المهم لديه إلا مصلحة بلاده دون الالتفات إلى ما سيؤول إليه وضع الحليف فيما بعد.
والأمران يشكلان خطورة على الوضع العربي ، وقد توافرا في الطرف البريطاني ، مما قاد فيما بعد إلى تأثير على الأهداف السياسية لقائد الثورة .
من جانب آخر كانت الأحداث والمواقف تؤكد استقلال الفكر السياسي للشريف الحسين بن علي، ففي أحد النصوص التي نقلها شفوياً محمد بن عريفان رسول الحسين بن علي ، وسجلها السيد "ستورز" ، حيث يقول الشريف: "إننا لسنا تحت إمرة الأتراك، ولكن الأتراك تحت إمرتنا "، (طلاس ، 1987) .
ب . الشورى في اتخاذ القرار . لم يكن الشريف الحسين منفرداً برأيه السياسي، حيث كان يستشير أصحاب الرأي والفكر، ويطلب مشورتهم ونصحهم، ولا يتخذ رأياً سياسياً أو قراراً سياسياً بمفرده ، ودليل ذلك ما ورد في نصوص رسالته الأولى إلى السيد "هنري مكماهون " التي بنيت استناداً إلى "ميثاق دمشق" الذي حدد فيه القادة والمفكرون السياسيون العرب مطالبهم السياسية بإنشاء الدولة العربية المستقلة المستندة إلى حدود واضحة المعالم، وردت في ميثاق دمشق، ومن ثم ضمّنها رسالته الأولى،وعبّر عنها في جميع رسائله الخمس لأهميتها،( طلاس، 1987) ، في حين أن أطراف الحوار البريطاني المباشرين مثل "ستورز" و"هنري مكماهون" وغيرهم، لم يأخذوا أفكار الحسين السياسية في رسائله على محمل الجد، بل كانوا يرون أن الشريف وضع شروطه الخاصة، وليس بتفويض من أهل الحل والربط من العرب، ولعل أبلغ ما يدلل على ذلك ما ورد في ما دوَّنه السيد "ستورز " بقوله : إن الشريف يطالب بأكثر ما يحق له أن يطالب به، أو يملك القوة على توقعه، إلى أن يقول بالنص الحرفي: " أخيراً إن الشريف مثله مثل أبناء دينه الآخرين، يحتمل أن يعدل في لهجته عندما تسقط استنبول" ( طلاس ، 1987).
ج . كان هناك تقاطع واضح في الفهم والمضمون والأهداف بين الشريف الحسين وبريطانيا عكسته المراسلات، خاصة أن متخذ القرار السياسي البريطاني يتحكم في الحوار عن بُعد، والقرار يتخذ في لندن، وإن ما يعتمل في ذهن متخذ القرار فقط هو مصلحة بريطانيا، لذا جاء مضمون الردود على رسائل الشريف مراوغاً، مبطناً، متبايناً مقابل الوضوح في مطالب الشريف، ويتضح أن الأهداف السياسية البريطانية تختلف عن الأهداف السياسية للشريف الذي كان يهدف إلى إنشاء الدولة العربية المستقلة، بينما كان الهدف البريطاني، هو الهيمنة على المنطقة العربية، والمحافظة على مصالح الحلفاء الأوروبيين، واقتسام التركة العثمانية، والخروج من الحرب منتصرة سياسياً وعسكرياً دون اعتبار لمصالح الحليف العربي.
د . كشف الفهم السياسي لدى الشريف أسلوب المراوغة السياسية والنوايا المبيتة من قبل بريطانيا للتحلل من التزاماتها الفضفاضة والبحث عن تبريرات ومسوغات للتنصل من أية وعود وعهود، لذا نجد عدم التزام بريطانيا بمعاهدة أو اتفاق رسمي حول المطالب السياسية للشريف مع إصراره على ذلك، وتضييقه المستمر أثناء المراسلات على بريطانيا، وتأكيده على ضرورة توقيع معاهدة رسمية تلزم بريطانيا بذلك، ولكن بدون جدوى، فكان الأهم لدى بريطانيا هو الحيلولة دون انحياز العرب إلى جانب ألمانيا، والدليل في النص الآتي من برقية وزير الخارجية البريطاني "جراي" إلى السيد "هنري مكماهون" في القاهرة، يقول فيها: "إن إعطاء تأكيد يقود إلى الحيلولة دون انحياز العرب إلى صفوف أعدائنا هو الأمر الأكثر أهمية، وإن أبسط خطة يمكن إتباعها هي إعطاء تأكيد باستقلال العرب"، ( طلاس ، 1987).
ه . عكست المراسلات عمق الفكر الاستراتيجي لدى الشريف من خلال إدارك مرامي وأهداف بريطانيا، وتمسكه بعقائده السياسية ، فهو ممثل العرب بناءً على تفويض منهم، ويتكلم باسمهم وقد أخذ على عاتقه السعي بكل ما يملك من إمكانات وقوة إلى حفظ الدين وحرية العرب، وإقامة الدولة العربية المستقلة، فهو لم يوافق على إخراج ولايتي حلب وبيروت، وكذلك البصرة وبغداد من مطالبه السياسية حسب طلب بريطانيا، بإعتبارهما موقعين استراتيجيين يوفران عمقاً استراتيجياً سياسياً وجغرافياً للدولة التي يطمح العرب لإقامتها، وباعتبارهما نقاط سيطرة هامة على الطرق البحرية التي تربط الغرب بالشرق ( طلاس ، 1987) ، وتستنتج الدراسة من تحليل نصوص المراسلات بين الشريف حسين ومكماهون ما يأتي:
(1) إن التعامل مع وكلاء متخذ القرار البريطاني قد أثّر تأثيراً سلبياً على نتائج المفاوضات (المراسلات).
(2) سيطرة متخذ القرار البريطاني عن بُعد من لندن، قاد إلى عدم تقدير صحيح لمطالب العرب، نظراً لسيطرة الهدف السياسي البريطاني على ذهنية متخذ القرار السياسي البريطاني، ولم يعط اعتباراً أو تقديراً لمطالب الحليف.
(3) وجود نوايا بريطانية مبيتة للنكث في العهود والتنصل من الالتزامات التي التزمت بها من خلال عبارات منمقة وفضفافة لم تشر إلى معنى محدد يفضي إلى نتائج واضحة، بالرغم من ضغط الشريف وتضييقه على الإنجليز لتوقيع معاهدة.
(4) فقدان بريطانيا موثوقيتها بهذه السلوكيات السياسية، بعد أن كانت تملك موثوقية عالية لدى العرب والعالم.
(5) لم يتخل الشريف الحسين عن مواقفه ولا عن مبادئه، وأدّى دوراً مشرفاً في السعي لتحقيق الاستقلال للعرب، وظل وفياً لمبدئه بالمحافظة على الأرض العربية وبالأخص فلسطين، فلم يوافق على معاهدة ، ولم يعط تعهداً في شيء ورفض وعد بلفور، ولم يوافق على وضع الانتداب على فلسطين.
(6) لا تتفق هذه الدراسة مع ما ذهب إليه بعض الباحثين إلى أنه كان هناك سوء فهم من خلال المراسلات، حيث لم يلتق فهم الشريف مع الفهم البريطاني نتيجة للمعاني والألفاظ والمصطلحات التي وردت في الرسائل، ولكنها تؤكد أن هناك فهماً واحداً ذهبت اليه بريطانيا وهو مصالحها فقط ، مع إدراكها الكامل لمطالب الشريف الحسين بن علي ومعه العرب.
المفهوم الاستراتيجي السياسي للثورة العربية الكبرى. لقد شكلت المعطيات السياسية والعسكرية والاجتماعية أبعاداً واسعة وضعت الفكر الاستراتيجي للشريف في حيرة، ومواجهة صعوبة في اتخاذ القرار، لذا فإنه في ظل هذه الظروف والأحوال كان لا بد لقائد الثورة العربية الكبرى من أن يحدد مفهومه الاستراتيجي السياسي للثورة، وقد لعب الأمراء أبناء الشريف دوراً في رسم هذا المفهوم، حيث كان لدى الشريف من سعة الأفق ما يجعله متأنياً في اتخاذ القرار، ولديه القدرة على التمييز السياسي بين الوقائع والأحداث والآراء ليقرر الأكثر صواباً، فكان يستشير ذوي الخبرة وأصحاب الرأي والفكر من حوله، ويستمع لآرائهم وأفكارهم، لذا فقد برزت أمامه ثلاثة توجهات استراتيجية سياسية حكمت قراره السياسي في تحديد مفهومه الاستراتيجي السياسي للثورة وكانت على الشكل الآتي : ( العدروس ، 1983) :
أ . الوقوف إلى جانب الأتراك في الحرب والطلب منهم الاعتراف بحق العرب بالاستقلال، وقد تبنى هذا التوجه الأمير فيصل بن الحسين استناداً إلى عدة أسباب أهمها:
(1) أن رؤيته تتلخص بأن الحلفاء لا يهمهم سوى تحقيق مصالحهم وأهدافهم السياسية بالحصول على جزء من تركه الرجل المريض، في كل من سوريا والعراق وفلسطين.
(2) أن وعود بريطانيا بالمساعدة في قيام الدولة العربية المستقلة غير كافية، وغامضة، تجاه ما نص عليه ميثاق دمشق بخصوص حدود الدولة العربية المستقلة وقيامها.
(3) إن الاستعداد العربي للقيام بالثورة غير كافٍ، وحينها فإن وحشية الأتراك ستزداد ضرورة تجاه العرب.
ب . الوقوف إلى جانب بريطانيا في الحرب: وقد تبنى هذا التوجه الأمير عبدالله بن الحسين الذي كان عضواً في مجلس المبعوثان التركي ، وقد استند الأمير عبدالله في توجهه هذا على ما يأتي:
(1) رؤيته بأن الاستقلال عن تركيا لن يكون إلا باستخدام القوة العسكرية، سواء تحالف العرب مع بريطانيا أم لم يتحالفوا.
(2) اطمئنانه لمواقف أحرار العرب والمفكرين السياسيين بالوقوف إلى جانب الحسين بن علي في ثورته.
(3) خبرته السياسية ومعرفته بالمعطيات السياسية السائدة، وإطِّلاعه على أسرار ونشاطات الجمعيات العربية خلال عضويته في مجلس المبعوثان في الأستانة.
(4) رؤيته الاستراتيجية بأن ميزان القوى يميل إلى صالح دول الحلفاء.
(5) تأكده من حاجة بريطانيا إلى حليف استراتيجي في المنطقة العربية لدعم مواقفها، مع إدراكه بأن مثل هذا التحالف سيسند الثورة في تحقيق مصالحها العليا بإقامة الدولة المستقلة.
ج . الاتجاه الثالث: وقد تبناه قائد الثورة الشريف الحسين بن علي، وقد تلخص في الدمج بين التوجهين السابقين، وفي اتباع استراتيجية الدبلوماسية والحرب، واستند في توجهه إلى ما يأتي:
(1) أن هذا المفهوم يخفف من إثارة الشعوب المسلمة من غير العرب ضد الثورة.
(2) يقلل من الخسائر في القوى البشرية بين صفوف العرب الذين سينضوون تحت لواء الثورة ، فهم غير مدربين، وفي يدهم القليل من الأسلحة.
(3) بقاء الباب مفتوحاً للتعاون مع بريطانيا، من خلال وعده للورد " كتشنر" .
وبعد التشاور، اتخذه قراره الاستراتيجي بإعلان الثورة العربية الكبرى، وأطلق رصاصتها الأولى من قصره في مكة المكرمة عام 1916.
وتختم الدراسة موضوعها بالقول: إن فلسفة الحسين بن علي في الثورة العربية الكبرى كانت تقوم على ركائز سياسية مهمة تلخصت في السعي لتحقيق الوحدة والحرية والحياة الفضلى الكريمة للأمتين العربية والإسلامية، وكان قائد الثورة يدرك أن هذه الفلسفة بحاجة إلى ثبات على المبدأ وإلى مزيد من الصدق والتضحية والأمانة والحس العميق بالمسؤولية، والوقوف مع الحق والعدل، وقد شكّلت هذه المواصفات تركيبة شخصية الحسين بن علي، ويمكن للباحث أن يقرأ كل ذلك في النص الآتي من أقوال الحسين بن علي: "ولي الشرف أيضاً لكوني ثبت على مبدئي، وأخلصت في عملي، وقمت بواجبي، فما عليَّ من غيري ( يقصد بريطانيا) إذا لم يف بالوعد، ولم يقم بإنجاز عهوده، ونفذ مطامعه بقوة مدرعاته ورؤوس حرابه، إنني لا أعترف بالانتداب من أساسه، وكل ما تفعله بريطانيا بي يزيدني شرفاً وفخراً بين شعبي وأقوامي، حيث يسجل التاريخ لكل منا عمله"،(العطار، 1995) .
يتبع الحلقة الخامسة.
صورة الكاتب اللواء الركن م الدكتور محمد خلف الرقاد.