منذ نشأتها الثالثة على يد الملك عبدالعزيز كانت السعودية محط أنظار الغرب المُتحفز، كانت إرهاصات العقد الثالث من القرن العشرين تُنبئ بحرب عالمية ثانية، حتى اندلعت فعليا الحرب العالمية الثانية في العام 1939 على يدّ أدولف هتلر بعدما سمحت الدول الغربية ومعها الولايات المتحدة أن يحتل بولندا، ومن هناك ظهرت الحاجة الغربية لمصادر النفط الذي بدأ للتو يتدفق في أول خزان في الشرق الأوسط بالسعودية، وأسرع الأميركيون الى تقديم خدماتهم لاستخراج النفط، متغاضين عن البون الشاسع عقائديا ودينياً واقتصادياً، وفي غضون سنوات قليلة باتت السعودية تضع مقعدها بين الدول العظمى ويلتقي ملكها المؤسس عبدالعزيز بالرئيس روزفلت 1945 الذي حذره طاقمه من تدخين الغليون أمام الملك.
استمرت السعودية في التعاظم خصوصاً عند العالم الإسلامي، فالحرمين الشريفين مقصد ملايين الحجاج والزائرين المسلمين سنوياً، ومع تقدم السنين تداول عرش المملكة بعد الملك المؤسس ستة من ابنائه ضمن نظام لم يخرج عن السياق العام التقليدي، فقد أغدقت الحكومات المستمرة بمن ملك مليارات الدولارات على الرفاه والتعليم والصحة وتعزيز دخل الفرد بطرق متعددة، ودعمت دولا عربية وإسلامية بالمليارات، فيما استمرت السعودية بسياقها الاجتماعي المعتدل والمحافظ دينياً دون تطرف كما كان قبل توحيد الجزيرة، إلى أن تضخمت داخليا شهية المتطاولين على ما تطاله أيديهم من أموال وأعمال وأراض شاسعة، حتى اعتلى العرش الملك سلمان، وتولي الأمير محمد بن سمان ولاية العهد.
من هناك بدأت حركة التصحيح، وخلال سبعة أعوام مضت انتقلت السعودية الى عالم جديد، تماماً كما يخرج المولود إلى حياة لم يكن يراها من قبل، فبدأ بن سلمان على يدّ أبيه، المعروف بحزمه، في مطاردة أوكار الفساد الماليّ والإداري واسترداد مليارات الدولارات، وشيئا فشيئا تغيرت نظرة الشعب الى المستقبل الذي بدأ يلوح في الأفق سريعا، فغالبية المواطنين هم من فئة الشباب، وهذه الفئة هي عمود الدعم لظهر الدولة، حتى آتت الاستراتيجية العقابية أُكلها بأثر رجعي، ليتكشّف حجم الهدر والبذخ الذي كان كثير من الراتعين به دون عناء ولا جهد، وأعاد الأمير محمد إنتاج المملكة الجديدة عبر معايير المستقبل الجديد، ليكتشف كثير من شعبه والمراقبين العالميين أن السعودية ليست مجرد خزان نفط أو سوق استهلاكي، بل أن هناك ثروات طبيعية وبشرية دُفنت لعشرات السنين حتى وجّه الأمير لخطة عشرية نرى خطوطها العريضة اليوم، بعيدا عن النفط.
السعودية قبل الملك سلمان ليست ما نراها اليوم بعد حكمه، حيث كانت تذهب كثير من الأموال على مشاريع هناك وهنا، وآخر ما يتم التفكيربه هو التنمية البشرية والاقتصادية وهن ركائز القوة السياسية والحماية الإجتماعية، وهذا ما دفع الأمير محمد للإشراف على رؤية السعودية 2030 التي قلبت معادلة الرتابة، ولو نظرنا الى مشروع نيوم اليوم لا يكاد المرء يصدق أن أطول شاطئ للبحر الأحمر بقي نائماً آلاف السنين حتى استيقظ أخيرا على مشاريع تنموية واقتصادية عملاقة.
ليس هذا فحسب، بل حتى التنمية الاجتماعية في السعودية تغيرت بسرعة فائقة، فقد جاءت التوجهات الى التحلل من القيود الاجتماعية التي كانت متغلغلة في الأوساط عبر تحديث المجتمع الذي يعتبر قوامه شباباً، ليس في المظهر فقط بل بالجوهر، حيث تفجرت طاقات الشباب بالإبداع والمنافسة والتعليم العالي وتعميم التكنولوجيا حتى حققت الرياض الحكومة الالكترونية بكامل مواصفاتها، ودخلت عصراً جديداً يمكن لأي إنسان في العالم أن يزور المملكة بضغطه على زّر هاتفه، ليجد التأشيرة بين يديه.
هذا ليس مديحاً، بل إعجاباً وتأشيراً على أن هناك طريقاً واحداً نحو النجاح، وهو دفن الفساد بأشكاله تحت التراب والبحث عن الطاقات المتفجرة لدى الشباب الوطني، والتعامل بندية مع الغير حتى ولو كانت الولايات المتحدة في عصر جو بايدن الذي لم يجد بُداً من أن يزور السعودية بما يشبه «مذكرة جلب» وهو من توعد دون سند، وأخفق بمسعاه للضغط على السعودية لزيادة إنتاج النفط، ورغم تذكرة سفره المتعددة لتل أبيب ورام الله ومؤتمر جدة، فهو لن يعود بالكنوز كما يحلم، وهذا دليل على أن السعودية تغيرت تماماً في عهد الأمير الشاب...
ما فعله الأمير محمد بن سلمان خلال خمس سنوات لم يفعله أحد منذ تسعة وثمانين عاماً، وهذا ما يحتاجه العالم العربي في موضع القيادة، والأردن يتطلع الى المزيد من التعاون الأخوي مع الرياض التي طالما كانت قريبة من حبل الوريد، وصفاء الأجواء الصيفية سيبعد السحب السوداء عن تلك الجبال الشامخة.