يبدو الكثير من المحللين العرب غير مقتنعين بـ”الهستيريا” الغربية بشأن الأزمة الأوكرانية. ولكن، بطريقة أو بأخرى، سيكون للنزاع بين روسيا وأوكرانيا تأثيرات في جميع أنحاء المنطقة.
* * *
مع استمرار سيطرة الأزمة الروسية الأوكرانية على عناوين الأخبار على مستوى الكوكب، تراقب مختلف أركان العالم التطورات عن كثب، في انتظار معرفة ما إذا كانت روسيا ستغزو أم تعمد إلى تهدئة التصعيد. وإحدى هذه الزوايا، التي حظيت بقدر أقل من الاهتمام، هي العالم العربي. وعلى غرار المناطق الأخرى، سوف يتأثر هذا الجزء من العالم بأكثر من طريقة. أولاً، تستمر المنطقة العربية في أن تكون مسرحًا لمنافسة القوى العظمى، لا سيما بين روسيا والولايات المتحدة. ثانيًا، تشكل هذه المنطقة موطناً لبعض أكبر منتجي النفط والغاز في العالم، والذين يتأثر مستقبل إنتاجهم من الطاقة بالتوترات المتزايدة وبنتائج الأزمة. وإضافة إلى ذلك، أثر الارتفاع الصاروخي لأسعار النفط في الأيام الأخيرة على الأسواق المالية في دول الخليج العربية، حيث تحركت الأسهم في اتجاهات مختلفة كرد فعل على "التوترات الجيوسياسية في أوروبا الشرقية”. وبالنسبة للبلدان المستوردة للطاقة، مثل الأردن ولبنان، ترتبط أسعار الوقود المرتفعة ارتباطًا وثيقًا بمكامن القلق السياسية في الداخل. ثالثًا، من المحتمل أن تعاني العديد من الدول العربية من نقص الغذاء إذا اندلعت الحرب، حيث تقف كل من روسيا وأوكرانيا بين أهم مصادر واردات المنطقة من الحبوب.
التصورات ومنافسة القوى العظمى
سوف يزيد وجود روسيا أكثر جرأة في أوروبا، أو تصوُّرها كذلك، من تقوية نفوذها في سورية، حيث دعمت الرئيس بشار الأسد وأبقته في السلطة طوال العقد الماضي. ويحدث هذا على خلفية ما يرى العديد من المحللين العرب أنه انسحاب أميركي من المنطقة. وهناك ببساطة المزيد من الأسباب، والفرص، للميل بقوة أكبر نحو روسيا في نظر العديد من الحكومات العربية. وقد أشار الكاتب المصري طارق عثمان إلى أن روسيا "تحاول ملء بعض الفراغ” الذي خلفه تراجع الوجود الأميركي "في شرق البحر المتوسط والأجزاء الأكثر اضطرابًا في شمال إفريقيا”، وكذلك "في بعض الدوائر ذات الصلة بأمن الخليج”، بما في ذلك توثيق التعاون بين روسيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة. وأضاف عثمان أن الدول العربية "تراقب الوضع في أوكرانيا لتقييم ما إذا كانت أميركا ستظهر القوة حقاً -والأهم من ذلك، الإبداع- في سبيل منع روسيا من تحقيق أهدافها”، أو أنه بخلاف ذلك "ستحصل روسيا على ما تريد”.
حسب الوضع في وقت كتابة هذا التقرير، تُظهر نظرة سريعة على العناوين الرئيسية والتحليلات التي تُنشر في وسائل الإعلام العربية، في كثير من الحالات، كيف "يقرأ” العرب التوترات الجيوسياسية في أوروبا وكيفية تعامل إدارة بايدن مع الأزمة في أوكرانيا. وتؤطر بعض العناوين ومقالات الرأي الأزمة من منظور "التصعيد الأميركي” تجاه روسيا، في تناقض صارخ مع نظرة وسائل الإعلام الأميركية والغربية للأزمة وتقاريرها عنها. وقد استشهد أحد المحللين بكيف أن الأزمة الأوكرانية الروسية تقدم درسًا مهمًا حول قوة وتأثير ما يسميه "آلة الإعلام الأميركية والغربية”، و”الهستيريا” التي صنعتها حول الغزو الروسي، إلى حد دفع وزير الخارجية الأوكراني نفسه إلى الحث على الهدوء.
وعلى حد تعبير كاتب عمود عربي آخر في صحيفة "أخبار الخليج” اليومية التي تصدر في البحرين، على سبيل المثال، فإن أميركا وحلفاءها في الناتو "يخوضون صراعًا مفتوحًا مع روسيا حول أوكرانيا ويصعِّدون الوضع إلى حافة الحرب بحجة تهديد روسيا لاستقلال أوكرانيا”. وأخبرتني محللة تقيم في عمان ولها معرفة عميقة بنشاط روسيا في المنطقة بأن معظم تغطية الأزمة الأوكرانية في وسائل الإعلام العربية تتم إعادة تدويرها من مصادر الأخبار أو التقارير الصادرة عن الصحف الدولية الكبرى. وقالت: "نادرًا ما ترين مقالات تنتقد النوايا العسكرية الروسية في أوكرانيا”. وثمة عامل آخر يساعد صورة روسيا على المواجهة مع الغرب هو أن معظم العرب ينظرون إلى روسيا من منظور التحالفات القديمة التي كان قد أقامها السوفيات في مختلف أنحاء المنطقة. وأشارت المحللة إلى أن "الكثيرين ينظرون إلى هذا الصراع على أنه داخلي بين روسيا وأوكرانيا”.
يبدو هذا التحليل للتصورات العربية منطقياً وصالحاً عندما ننظر إلى أحدث نتائج لـ”مسح الشباب العربي”، تحديداً فيما يتعلق بكيفية رؤية الشباب العرب لحلفاء بلدانهم وأعدائها. وحسب الاستطلاع، يرى 70 في المائة من الشباب في 50 مدينة عربية شملها الاستطلاع روسيا كحليفة، في حين يرى 26 في المائة فقط أنها عدو. وفي المقابل، يرى 57 في المائة منهم الولايات المتحدة كحليفة بينما يرى 41 في المائة أنها عدو. ومن المهم أن نلاحظ هنا أن الشباب العربي يمثلون أكثر من 60 في المائة من سكان المنطقة.
بالنظر إلى هذه الآراء، يرحب بعض المحللين صراحةً بالتحركات الجيوسياسية بعيدًا عن عالم أحادي القطب تكون فيه الولايات المتحدة هي المهيمن. وهم يأملون في أن تشكل هذه التطورات عودة محتملة إلى عالم ثنائي القطب، أو تحولاً نحو عالم متعدد الأقطاب تنضم فيه الصين إلى روسيا في التنافس على السلطة والنفوذ مع الولايات المتحدة. وسوف توفر منافسة تنشأ بين القوى العظمى فرصة لدول المنطقة لتأكيد نفسها وإيجاد تحالفات أكثر فائدة.
روابط الطاقة وموازنة العلاقات
تسلط نظرة أقرب إلى الدول العربية في الخليج، وبعضها من أكبر منتجي الطاقة في العالم، الضوء على كيف ولماذا تؤثر الأزمة الأوكرانية الروسية بعمق على الصحة الاقتصادية في المنطقة العربية. وعلى غرار الدول الأخرى غير الخليجية في العالم العربي، مثل مصر، تحاول دول مجلس التعاون الخليجي الحفاظ على "علاقات متوازنة مع القوى العالمية الكبرى”، وفقًا لعبد الله باعبّود، المحلل السياسي والأكاديمي العُماني. ويشير باعبّود إلى أن أزمة أوكرانيا "تضع (هذه الدول) في موقف حرج إذا اضطرت إلى اختيار جانب”، خاصة إذا أدى الوضع المتوتر إلى نشوب حرب، حيث تلوح في الأفق عقوبات ستُفرض ضد روسيا والتي ستؤثر على "تعاونها الاقتصادي والعسكري المتنامي مع موسكو”. وربما يكون البعض قد اختاروا جانبًا بالفعل. وبحسب ما ورد، قررت المملكة العربية السعودية التمسك باتفاقية مبرمة بين منظمة "أوبك” وروسيا، أو (أوبك+)، بدلاً من "ضخ المزيد من النفط الخام لترويض السوق” الذي سيساعد الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين. وكان هذا ما قررته المملكة، في الوقت الحالي (حتى كتابة هذا التقرير) على الأقل.
وأوضح باعبّود أن لدى دول مجلس التعاون الخليجي "علاقات عمل جيدة مع روسيا في مجال النفط والغاز من خلال (أوبك+) ومنتدى الدول المصدرة للغاز”، مضيفًا أن الضغط الأميركي على هذه الدول "سيؤثر سلبًا على تعاونها مع موسكو، ويمكن أن يكون لتحويلها الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا تأثير على اتفاقياتها طويلة الأجل مع الدول الآسيوية”. وتعود هذه الهواجس التي يتم الشعور بها في دول مجلس التعاون الخليجي إلى تصوراتها حول منافسة القوى العظمى في جميع أنحاء العالم وفي منطقتها هي أيضاً. وقال باعبّود إن هذه الدول "تنظر إلى روسيا كقوة تريد إقامة علاقات جيدة معها، خاصة (في ضوء) وجود تصوُّر بأن الولايات المتحدة تتخلى عن المنطقة”.
التغلب على أزمة القمح
تقف كل من أوكرانيا وروسيا بين أكبر مصدري القمح في العالم الذين تعتمد عليهم العديد من البلدان في المنطقة (حيث تمثلان حوالي 29 في المائة من الإمدادات العالمية). وتواجه مصر، ولبنان، واليمن، والدول العربية في شمال إفريقيا (خاصة ليبيا والمغرب) أزمة "خبز” وشيكة مع استمرار ارتفاع أسعار القمح بسبب تصاعد التوترات على الحدود الأوكرانية الروسية. وتتعرض لبنان واليمن للخطر بشكل خاص بينما تتصارعان مع تحديات الأمن الغذائي الخاصة بهما، وحيث يغرق اليمن في عمق صراع أودى بحياة حوالي 377.000 يمني. ومن المثير للقلق بشكل خاص أن 60 في المائة من هؤلاء الضحايا ماتوا بسبب الجوع أو لأسباب صحية أخرى.
إضافة إلى ذلك، سوف تكون مصر، باعتبارها الدولة العربية الأكثر اكتظاظًا بالسكان والتي تضم أكثر من 100 مليون نسمة، معرضة بشكل خاص لارتفاع أسعار القم، الذي تستورده بشكل أساسي من روسيا وأوكرانيا. وعلى الرغم من أن المسؤولين المصريين يقللون من أهمية التأثير السلبي للأزمة الأوكرانية الروسية على واردات القمح إلى مصر، فإن التاريخ يقدم تذكيرًا قاسياً بالكيفية التي تسبب بها ارتفاع أسعار الخبز في أعمال شغب في مصر، في وقت قريب نسبياً هو العام 2017، وبعيد أيضاً هو العام 1977. ويسمي المصريون الخبز "عيش” بمعنى "الحياة” لأن العديد من الأرواح تعتمد عليه. ولذلك، عندما يتعذر الوصول إليها تكون هذه الأرواح على المحك وتندلع الاحتجاجات نتيجة لذلك.
انتظر وراقب
حتى كتابة هذا التقرير، وبالنظر إلى التحليل أعلاه حول هذه الجبهات الثلاث -منافسة القوى العظمى؛ والطاقة والاقتصاد؛ والأمن الغذائي- فإن الموقف القياسي للحكومات العربية هو "انتظر وراقب” بحذر، أو هو موقف "الترقب الحذر”. وقد اتخذت حكومات عربية قليلة مواقف معلنة واضحة من الأزمة الأوكرانية أو عرضت لعب دور في نزع فتيل التوترات بين روسيا والغرب. وكما يلاحظ العديد من المحللين العرب، فإن اتخاذ مثل هذا الموقف مفهوم، وربما يكون مرحباً به كإجراء مؤقت. ومع ذلك، ثمة خطر كامن من أن يصبح موقف "انتظر وراقب” هذا رد فعل دائما تجاه الوضع، وهو ما قد يضغط على الحكومات العربية حينئذ لاختيار جانب بين أميركا وحلفائها الغربيين من جهة، وروسيا من جهة أخرى، خاصة إذا فشلت الدبلوماسية واندلعت الحرب. وإذا كان نشاط وسائل التواصل الاجتماعي يصلح ليكون مؤشرًا، كما أشار محللون آخرون، فإن الشارع العربي أوضح مسبقاً ميوله نحو روسيا. وربما يكون هذا الموقف مجرد ازدراء لأميركا في المنطقة والعالم الغربي، حيث تقف روسيا بحزم في تحدي مكانتها كقوة عظمى في أوروبا.
*ميريسا خورما: مديرة برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون. كانت زميلة غير مقيمة في برنامج الأمن الدولي في "أميركا الجديدة”. لديها خبرة قيادية في العمل في مجموعة من المشاريع التنموية في الشرق الأوسط والتي ركزت على التنمية الاقتصادية، وأزمة اللاجئين السوريين، والتعليم، والشباب، وتنمية النوع الاجتماعي، والحوكمة. تحمل درجة الماجستير في الإدارة العامة من كلية كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد، وماجستير العلوم في الأمن الدولي والسياسة الخارجية من جامعة جورج تاون، وبكالوريوس الفنون في العلوم السياسية من جامعة ماكجيل. ويعمل برنامج الشرق الأوسط التابع لمركز ويلسون كمورد أساسي لمجتمع صنع السياسات وخارجه، حيث يوفر التحليلات والأبحاث التي تساعد على إعداد السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وتحفيز النقاش العام، وتوسيع المعرفة حول القضايا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأوسع.